الخيول الكوردية الأصيلة في العصر الأيوبي

 

يوسف العمري

بدأت عناية السلاطين والأمراء الأيوبيين بتربية الخيول الكوردية الأصيلة في القرن الحادي والثاني والثالث عشر الميلادي، وكانوا يهتمون باختيار الخيل التي تمتاز بجمال المنظر وسرعة العدو وقوة الاحتمال، وقد جاء في كتاب (شرح المقامة الصلاحية في الخيل والبيطرة والفروسية) أن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي ثالث سلاطين الدولة الايوبية ومؤسسها الحقيقي كان شغوفًا بامتلاك الخيول الكوردية الأصيلة، وخاصةً من قبائل (الديلم والهذبانية والقيمرية) التي اشتهرت بتربية الخيول وبسبب حبه للخيول كان يبالغ في إكرام الكورد ويرغبهم في أثمان خيولهم حتى خرج عن الحد في ذلك، وكانت قبيلة الهذبانية يأتون السلطان بأفضل الخيول الكوردية من غيرهم من قبائل الكورد، وكانوا يدفعون الأثمان الزائدة فيها، حتى أتتهم قبائل الكورد بأفضل خيولهم، فمكنت قبيلة الهذبانية من السلطان وبلغوا في أيامه أعلى المراتب و(لقد سطعت شمس الكورد القيمرية في القرنين السابع والثامن الهجريين أيام دولة بني أيوب فأصبحوا من ملوك الكورد وسادات البراري الكوردية في الدولة الأيوبية، وعندما كان يصدر المرسوم الملكي من القاهرة أو دمشق من الملك الأيوبي بتثبيت أو تعيين الأمير القيمري فإن المرسوم كان يصف هذا الأمير القيمري بـ(ملك الكورد) أو بـ(سلطان الكورد) أو بشاه كوردان دشتي اي (أمير كورد البوادي) والحواضر في كوردستان والشام ومصر والعراق والحجاز ونجد والسودان وليبيا. ومن أشهر مرابط الخيل (الماذي) وهي خيول جبيلة همذانية مثل (شبديز وگلگون) عند قبيلة القيمرية الكوردية وهو مربط خيل أميرهم الشهير أبو الفوارس القيمري ت735 هـ. ملاحظة تغنت الشعراء الكورد مثل بابا طاهر آريان والدشتي والفردوسي بخيول شبديز وگلگون وهي خيول شاهات الأكاسر وفي العموم فان قبيلة القيمرية كانوا جميعًا مشهورون باقتناء الخيول الهمذانية الكوردية وغيرها وكان السلطان لا يحب الخيول من نوع برقة العربية الليبية ولا الكديش التركي او الافرنجي، وإذا باع منها شيئا أعده للتوزيع والإهداء على الأمراء، وكان لا يسمح بإهداء أو توزيع الخيل القادمة من قبائل الديلم أو هذبان أو القيمرية إلا لأعز الأمراء وأقرب الخواص، وكان السلطان جيد المعرفة بالخيل وصفاتها وأنسابها، ولا يزال يذكر أسماء من أحضرها إليه والثمن الذي دفع فيها، فلما اشتهر بذلك جلب إليه أهل خراسان وأصفهان وهمذان والأهواز وآمد وبغداذ أفضل خيولهم الكوردية، فدفع لهم في الفرس الواحدة من عشرة آلاف درهم إلى عشرين إلى ثلاثين ألف درهم، منها ألف وخمسمائة مثقال من الذهب، بالإضافة إلى ما كان ينعم به من الثياب الفاخرة والسكر وغير ذلك من المرغبات، فلم تبق قبيلة من الكورد إلا وأحضرت له أفضل خيلها وبلغ من شدة حب السلطان للخيول ورغبته فيها أن دفع في يوم واحد ثمناً لشراء بعض الخيول ألف درهم، وتكرر هذا منه أكثر من مرة فقد بلغ ثمن الفرس الواحد من خيل قبيلة القيمرية الستين ألف درهم والسبعين ألف درهم، واشترى كثيرًا من الفرسات بالثمانين ألف درهم والتسعين ألف، فقد اشترى الفرسة برزان شاه بمائة ألف درهم منها خمسة آلاف مثقال من الذهب، بالإضافة إلى العطايا السلطانية من الضياع في بلاد الشام، وكان من عنايته بالخيل أنه كان يتفقدها بنفسه، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به إلى المراعي، وتحدث عملية التناسل بين الفحول المعروفة عنده والفرسات بين يديه.

 

وكتاب التذكرة الهروية في الخيول الحربية تؤرخ تاريخ نزوها واسم الحصان والفرسة، وكان يشرف بنفسه على ولادة الإفلاء أبناء الخيل والمهار وعلى تسجيلها بسجل خاص، فتوالدت عنده خيول كثيرة اغتنى بها عن شراء الخيول.

(ابن نباتة المصري عن خيل القيمرية أكراد حُسنٍ خيولُ أرضكم قد مات فيها المحب أو كادا فيا لها من فرسٍ دُهيتُ بها حتى رأيت النجوم أكرادا وعن خيول الهذبانية للقيسراني فَإِنَّ نَداماكَ الَّذينَ خَذَلتَهُم تَلاقَت عَلَيهِم خَيلُ هذبان وَحِرابُها)

بعض الأسطر من كتاب شرح المقامة الصلاحية في الخيل والبيطرة والفروسية أولها: ((روى أن الملك الناصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رضى الله عنه كان محباً للجهاد فاتحاً للبلاد. آخرها: فبالله لقد شغفنى بمقاله وجاله وتمنيت سقطاً من فعاله وهذا آخر المقامة الصلاحية فى الخيل والبيطرة والفروسية. وقد شيد السلطان صلاح الدين الأيوبي الكثير من الإسطبلات الفسيحة والميادين العظيمة للسباق، كما أنه خصص لها فريقًا من أشراف قبائل الكورد الماهرين مثل (الكيكان والهكارية وهماوند) لتدريب الخيل والعناية بها، وكان يقيم السباقات السنوية التي تشترك فيها خيله الخاصة مع خيل الأمراء. ومما سيذكر في هذا المضمار أنه في إحدى المرات بعث إليه أحد أمراء قبيلة القيمري وهو الأمير ابو الهيجاء القيمري فرسًا من الگلگون على أنها إن سبقت خيل مصر فهي للسلطان وإن سبقها فرسه ردت إليه، ولا يركبها عند السباق إلا رجل كوردي يقودها، فوصل السلطان إلى ميدان السابق كعادته ومعه أمراؤه، ووقف معه ابن شداد وقره قوش وأرسلت الخيول من منطقة بركة الحاج على عادتها وفيها فرس ابو الهيجاء وقد ركبها الكوردي عريًا بدون سرج؛ فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى فازت بالسباق وهي بدون سرج، والكوردي عليها بقميص وطاقية، فلما وقفت بين يدي السلطان صاح الكوردي: السعادة لك اليوم يا أب الهيجاء لا شقيت…)).

واستمر الحال على هذا المنوال لبعض الوقت، ثم هزل الاهتمام بالخيل بعد وفاة السلطان الناصر حيث مات عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس، وبطل بعده السباق، وظل الحال هكذا حتى بداية حكم السلطان سيف الدين أحمد أخو الملك الناصر صلاح الدين الملقب (بالملك العادل سيف الدين ابو بكر) حكم مصر عام 596هـ/1200م. وبمجيء السلطان العادل إلى الحكم تجدد الاهتمام بالخيول الكوردية، حيث حاول اتباع خطوات السلطان الناصر، وقد أنتج بالفعل الآلاف، ومن آثاره أيضا مخطوط (الفوائد العادلية في أنساب الخيول الكُردية) حيث اقتنى سبعة آلاف رأس من الخيل إلا أن هذا الاهتمام لم يدم بعد هذا السلطان أيضًا وأخذت حالة الخيل تتردى من سيئ إلى أسوأ. ملاحظة هذا المخطوط اندثر وبقي منه نسخ دمجت مع كتاب الزردفة في العهد المملوكي. ويقول جمال الغيطاني في كتابه ملامح القاهرة في ألف سنة واصفا سوق الخيل المصري في العصر الأيوبي نتجه إلى ميدان الرملية الممتد تحت قلعة الجبل، ربما كان التجول في سوق الخيل مدخلاً طبيعياً إلى عالم رحب، وثيق الصلة بكافة تفاصيل الحياة خلال العصور الوسطى، لم يتغير موقع هذا السوق طوال العصر الوسيط، ترتفع صيحات الدلالين والمنادين، أنواع عديدة من الخيول، لكنها موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية، الخيول الكُردية، أنفسها، وأغلاها قيمة، مطلوبة للسباق، وللحاق، مصدرها همذان والاهواز، وخراسان، وأذربيجان، آمد، أصفهان وبغداذ. وبلاد الديلم وطبرستان، ومرو الشاهجان. أنتهى الاقتباس.

النوع الثاني، الكُردي أو أعجمي وكانت تسمى الهماليج، أو الأكاديش، مرغوبة لصبرها على السير الحثيث، وسرعة المشي، النوع الثالث مولد بين العربية والأعجمية، إذا كان الأب أعجمياً والأم عربية قيل له هجين، وهي وسط بين النوعين السابقين، أما الخيول الإفرنجية فهي أفشل الأنواع، وأرخصها ثمناً هنا، ولا يقبل عليها أحد. قام النظام الأيوبي على دعامتين، الفارس، والفرس، ربما كان هذا سبباً قوياً في أهمية سوق الخيل، وقربه من قلعة الجبل، مركز الحكم، ورمز السلطة في مصر وقتئذ، في السوق نرى ألواناً عديدة، غير أن الألوان الأساسية أربعة، وما عدا ذلك متفرع منها، الأول: اللون الأبيض، وكان سلاطين بني أيوب يفضلونها، ويطلقون عليها، الفرس سڤيد أو البوز اسب ويذكر أبن شداد في النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية أن السلطان صلاح الدين الأيوبي عندما خلع على بهاء الدين قراقوش أهداه فرس سڤيد بسرج ذهب وكنبوش، ولا يذكر خروج السلطان الناصر في المواكب إلا ممتطيىًا  أفرس سڤيد أبيض. الثاني: هو الأسود، وكل فرس شديد السواد كان يطلق عليها سياه أسب. والثالث: هو اللون الأحمر، ويسمى قرمز اسب واللون الرابع: هو الأصفر ويسمى زرد اسب ومعرفة ألوان الخيل ضرورية بالنسبة للفرسان، وقادة الوحدات العسكرية، وأحياناً كان بعض الفرسان يحرصون على ركوب فرس ذات لون معين في كل يوم، وجرى العرف أن يكون ركوب (السياه) أي الأسود يوم السبت، ويوم الأحد (السڤيد) الأبيض، والاثنين (الزرد) الأشقر، والثلاثاء (سُرخ) وهو الأحمر، والأربعاء (السياه) الأسود ويوم الخميس للبوز الأبيض وهو ما كان بياضه بين وبين ويوم الجمعة (القرمز) وهو الأحمر، ولهذه الألوان علاقة بالتفاؤل، ولا يقتصر التفاؤل والتشاؤم على اللون العام للفرس، وإنما يتعلق الأمر ببعض العلامات في جسده، ف(الچتر) يعني الغرة أي البياض الذي يكون في وجه الفرس، إذا استدارت أو كانت تشبه حرف الحاء فإنها تدل على اليمن والبركة، وإذا أصاب البياض خدا دون الآخر، فإن الفرس يكون مكروهاً، ويتشاءم به، كذلك إن غطت عيناً دون الأخرى فيصبح من المتوقع أن تقتل مع صاحبها، أما إذا غطت العينين فإنها تقهر مع فارسها، وإن مالت إلى اليمين تدل على الشؤم، وإلى اليسار فإنها تدل على المكاسب، وإن وصلت إلى الأنف فإنها تدل على البركة والخير، وإن كان هناك لون يخالف لون الفرس في رجلين مختلفين فإنه مكروه، على سبيل المثال في سنة 802هـ- 1399م، كسر الأمير تنم وسقط أسيراً، واستفسر المؤرخ ابن تغرى بردى عن سبب وقوع الأمير عن فرسه، ثم أسره. فقالوا: كان في فرسه شؤم، وأشاروا إلى هذه العلاقة، وقالوا: إن أصحابه نهوه عن ركوبه فأبى.

 

 

الخاتمة لقد أخترت لكم بعض الأبيات التي تغنت بها شعراء العرب عن خيول الكورد. نظم البحتري قصيدة غرّاء أثني فيها على خيول الكورد حينما دافعوا عن اليمن من غزوا الأحباش لها زمن كِسرى قبل الأسلام

فَكَمْ لَكُم مِن يَدٍ يَزكُوا الثناء بها      ونعمةٍ ذكرها باقٍ علي الزمنِ

إن تفعلوها فليست بِكْرَ أَنعمكُم     ولا يدٌ كأياديكُمُ علي اليمنِ

إذْ لاتَزالُ خيولُ الكُّردِ دافعةً     بالضَّرْبِ والطعنِ عَنْ صنعاء وعن عدنِ

أنتم بنو المنعمِ الُمجدي ونحنُ      بنو من فاز منكم بفضل الطول والمِنَنِ

 

قد يعجبك ايضا