ماهين شيخاني
في إحدى صباحات الشتاء ، حمل فلاح طاعنٌ في السِّنِّ صرّته الّتي تحتوي بعض الطعام والماء متوجّهاً كعادته إلى أرضه القريبة من حدود الدولة الشمالية ، كان الجو ضبابياً لا يرى المرء دربه على بُعْدِ خمسةِ أمتار أو ربما أقل , جلس ليأخُذَ قِسْطاً من الرّاحةِ بعد أنْ قطع مسافةَ ثلاثَ مِئَة مترٍ, سمع وقعَ خطواتٍ ….حيثُ لا يُسْمَحُ لطائرٍ تخطّيَهُ….فوجئ بجنديّ بكامل عَتَادِهِ يقتربُ منه رافعاً يديه …مُشيراً بسبابته….ما قصّتُك يا بني ؟..تحدّثْ…!. وبصوت مخنوق قال له : لا تخف يا عم لا تخف , جئتكم لنجدتي , لإنقاذي , جئتكم لطلب المساعدة فأنا منذ ايام مختبئ مؤشراً بسبابته نحو كومة القش كانت تبدو لهما.
– مساعدة مني أنا , ماذا تقصد , ما هي قصتك يا بني ، تحدث يبدو أنك تجيد لغتنا بطلاقة , ما خطبك , ما الذي جاء بك الى هنا , من المفترض أن تكون في محرسك , أليس كذلك ..؟.
– قتلتُ جنديين ، وفررتُ لِأنجوَ بنفسي …؟.
– مذهولاً – ماذا …قتل ..؟!. هل تستهزئ بي وأنا في هذا العمر يا ولدي ..!!.
– لا يا عم حاشى أن أستهزأ بكم , أقول لك الصواب , نعم الصواب , لذا أرجوك أنقذ روحي ، أنهم سيقتفون أثري بكل تأكيد , سيلاحقونني , لو قبضوا عليَّ لن أفلت من حكم الإعدام , خُذْ بندقيّتي ومسدّسي لك….وبهما تصرّف ما تشاءُ, فقط ساعدني بالوصول الى “الدولة الشرقية ” هناك لنا أقرباء وأعلم هناك مقاتلون يدافعون عن حقوقنا , سأذهب لأنضم إليهم , رغم اشتياقي لوالدي ووالدتي , صدق من قال : إنّ الحقوقَ تُؤْخَذُ ، ولا تُوْهَبُ.
– تفضل يا بني , , اجلس ..اجلس.. حدّثني عن جنايتك المرتكبة , أكنت – بني – ثملاً أم الطّلقاتُ قد خرجت من فوّهةِ بندقيّتك خطأً.. .؟!…
– …لا ، لا ..قتلتهما عمداً وعن سابق إصرار ومن كان في وضعي لقتل الفصيلة بالكامل ..؟.لكن بالله عليك لم يعد يتسع الوقت , حتماً سيمشطون المنطقة وسيخترقون الحدود.
– أوف , يا ساتر يا رب ..!!. لم هذا الانتقام ..؟.. لم عرضت نفسك لخطر كهذا , انك عسكري ألم تفكر بنهايتك ..؟!..
– فكرت ياعمي فكرت وحاولت أن أتخلص وأطرد التفكير من ذهني , لكن هيهات , لم استطع نسيان الإهانات , كنت الوحيد الذي لا ينتمي الى قومهم وكانوا يستهزئون بي وحتى , يمنعوني من الأكل معهم وكل الأعمال الشاقة كان على عاتقي والضابط يتعمد إهانتي أمامهم ويقول : هؤلاء خلقهم الله لخدمتنا , كم نحن مسرورون كوننا من أعظم قومية , …وكم من مرّاتٍ دمعتْ عيناي ، وفي قلبي غصّة تؤلمني تخنقني من الوجع , لا حول لي ولا قوة , قدمت طلب نقلي الى مكان آخر , رفض الضابط وقال : أيها السرسري تريد التخلص منا , لن تحلم بذلك وبدأ يشتمني ويشتم قوميتي , أنتم يا سفلة العالم تريدون الانفصال عنا ..؟. سنجعل نساءكم خادمات وصيفاتٍ في بيوتنا وربما نستعملهم لأمور أخرى , أظنك تدري ما هي الأمور الاخرى , ووضع يده بين فخذيه , ….مشيراً إليه كي يخدموا هذا..؟. هل فهمت يا ” جبلي “..؟. والجنود يضحكون وينظرون إلي بازدراء ..
لو كنت موضعي يا عم ماذا تفعل ..؟. أنا على ثقة كنت ستفجر قنبلة بهم جميعاً, لتتطاير ….لتتطاير أشلائهم للجهات الأربع , لكنّ الحظّ أسعف بعضاً منهم, لم أفوت الفرصة حين أتيح لي الجو الضبابي وبقينا أنا والضابط وجندي آخر .
– سالت عبراتُ العجوزِ على خدّيه ساخنةً ،وهزّ رأسه , ثم انتصب قائلاً :
أذهب وأختبئ في مكانك يا بني وخذ سلاحك معك ربما تحتاجه , كن حذراً , سأرجع للقرية وأخبر الوجهاء عن كيفية خروجك من هذا المأزق قبل أن يفيق أهل القرية , ففي القرية دسّوا بيننا أولاد الحرام من المخبرين والعملاء.
ثم أخذ العم طريقه نحو القرية بخطوات جاهدة سريعة ليخبر المختار ويستشيره أولاً , حيث كان هو الوحيد الذي يملك هاتفاً مرخّصاً له من الحكومة الّتي لا تسلّمه إلّا لمن يكون عميلاً لها ؛ أو يدفع مبلغاً مغرياً ، به يُرضي رئيس المفرزة فيسيل لعابه لقاء حصوله على هاتفٍ..
دق باب المختار بعصاه , حتى سمع من الطرف الآخر للباب ..؟!.من الطارق ..؟.
أنأ عمك أبو سالار, نادي المختار , هناك أمر جلل .
حسناً عمي , أذهب للمضافة حتى يحضر والدي .
بعد لحظات دخل المختار :
اللَّهُمَّ اجعله خيراً ..ما الّذي جعلك تأتينا هذا الصّباح أبا سالار..؟! ..
أهدأ يا مختار …لنفكّر سويّاً وبِتَرَوٍّ في المصيبة الّتي حلّتْ بأهل قريتنا, هناك جندي هارب من ” الدولة الشمالية ” والتجأ إلينا يطلب المساعدة وإيصاله الى حدود ” الدولة الشرقية ” . وسرد له الحكاية بالتفصيل وقال :
يا مختار ..هذا ليس رجلاً عادياً ، أو قاتلاً كما تظنّ …إنّه – بحقّ – بطلٌ وأمثاله قِلّةٌ , دافع عن شرفنا وكرامتنا .
سحب المختار من جيبه كيس تبغه , اقتطع وريقةً من ورق الشّام ، وأخرج نُتْفَةً من التّبغ ، وجعل منها لِفافةَ تبغٍ , ساده الصّمتُ برهةً , وهو يفكر بهذه المشكلة , ثم التفت اليه وقال :
أتريد أن نحرق القرية من أجل فردٍ لانعرف – كما يقالُ – صلعةَ أبيه من أين..؟!. صحيح علينا مساعدة الملهوف والدخيل وهي من شيمنا وأعرافنا , لكن أمام العشائر و أمام الدول والحكومات ليس بمقدورنا , ليس بإمكاننا استقبال قاتل بيننا ولا حتى الاقتراب من القرية , سيجلب لنا الويل وسنتعفن داخل السجون ولا أحد يتجرأ الاقتراب من قضيتنا لإنقاذنا , لأنّنا بذلك نكون شركاء القاتل , وربما يهجمون علينا في ليلة ظلماء ويقضون على كل من في القرية , وقد سمعت ما حصل في قرية ” جرنك” القريبة من قامشلو .
– يا مختار إنه ابن جلدتنا وليس من عاداتنا أن نطرد الدخيل علينا , إغاثة الملهوف واجبنا حتى لو كان عدونا ، لن يظل طويلاً سنستأجر له سيارة وأنا سأناصفك ثمن الأجرة ، حرام أن نترك هذا الشاب الذي دافع عن عرضنا, ستكون وصمة عار على جبيننا , سيلفظنا التأريخ وضميرنا سيؤنّبنا ما حُيِيْنَا ويلاحق العار أحفاد أحفادنا .
– أو تُعَلّمني واجبي؟!. لا نستطيع – أبا سالار – تقديمَ المساعدةِ إلى أحدٍ … اِفهمني جيّداً..افهمني جيّداً…! لو استقبلناه سيصل الخبر الى الجهات المعنية وهذا ليس من مصلحة الشاب , أذهب حالاً عليه أن يتوارى من المنطقة الحدودية ويتوجه الى قرى بعيدة عن الحدود و عن الأنظار, حتى أثار بوطه يجب ان لا يمس أراضي القرية , بلغه ليتخذ مجرى الوادي كي لا يلمحه أحد ويبتعد , ربما يساعده القدر بالحياة في منطقة ما أو يصل إلى أحد من أقربائه
– هو منهك ومنهار يحتاجنا , وحالته النّفسيّة يُرْثَى لها ..ليختبئ عندنا ليرتاح يوماً واحداً علّ الله يهدينا إلى وسيلة أخرى لإنقاذِهِ.
– غير ممكن , مستحيل , قم …تحرك وأسرع الخطا قبل فوات الأوان..!.
رجع العجوز حائراً يسحب خلفه أذيال الخيبة , حاملاً معه بعض الألبسة العتيقة لتبديل مظهر الشاب , خرج الجنديّ بلهفةٍ من مخبئه وتوجه إليه : تأخرت كثيراً طمني يا عم …؟. قمح أم شعير .
يا بني أعتذر إليك ، فأنا منك خَجِلٌ ..قرّر المختار منعَ دخولك إلى القرية بحجّة أنّ هناك مخبرين بيننا, وهناك اتفاقيات أمنية بين طرفي حدود الدولتين الشمالية والغربية يسمح بملاحقة المجرمين وأنت في حكم القاتل .
أممم …حسناً , لن أثقل عليكم ولا أرضى أنْ يُساءَ إليكم من أجلي, بضع دقائق فقط , أخذ غفوة وأغمض عيني لا أكثر يا عم ..؟.
تنهد وقال : ليت بيتي كان على أطراف القرية , اتبعني يا ولدي اتبعني لأدلك على الوادي الذي عليك أن تسلكه حتى تصل الى أحدى القرى البعيدة من هنا .
أخذا يسيران في جوف الوادي الذي يمر من أطراف القرية ودموع العمّ تسيلُ على خدّيه غزيرةً لخذلان الدخيل وعدم قدرته الإيواء , بعد مسافة لا بأس بها , استودعه , ضمه الى حضنه كمن يحضن ولده المسافر الى مصير مجهول وجلس وحدَهُ ، وعيناه ترقبان الدّربَ الذي سلكه الشاب حاملاً أشياءه على ظهره .ومن حين إلى حين يرفع بصره إلى السّماء ، و يلتفت وراءه ، وبعد لحظاتٍ, وصل حيث كان يسير داخل نهير صغير جاف يمر بقرب قرية أخرى وهناك هاجمته كلاب الرّاعي ، وسقط أرضاً ، فأخرج مسدّسه فلقّمه ثمّ أعاده وهو منهك وجائع ، انتبه الراعي الصغير مع صديقه وهما لا يتجاوزان الاثني عشر عاماً. الى شخص مجهول يرفع يده اليهما ويلوح بأن يقتربا منه , أبعدا الكلاب عنه لكنهما خائفان من الاقتراب منه حتى لاح شروق الشمس وإذ بشخصين يخرجان من القرية للذهاب إلى البلد سيراً على الأقدام كالعادة للتسوق وكان أحدهما والد الراعي الصغير, ركض مسرعاً ونادى والده وأخبره بأنّ هناك شخصاً في الوادي لا يستطيع التحرك لكنّه يشير بيديه إلى المساعدة , اسرعا الرجلان الخطى الى الوادي وطالبا من الشاب أن يضع كيسه جانباً تحسّباً لطارئ ما وتحدثا معه باللغة العربية والكوردية , لم يتكلم كان صامتاً ومنهاراً , أخذ الرجل القروي يفتش كيسه فوجد رشاشاً مفككاً والألبسة العسكرية , التفت الى الشاب وقال :
– عسكري …ما خطبك ..؟. قل لنا ماذا جرى لك..؟.. تكلم نحن كورد وإذا تجيد اللغة العربية سنتحدث معك باللغة التي تفهمها , ماذا حصل لك ..؟.
– نطق الشاب بصوت خافت , أنا كوردي من منطقة وان ولغتي كوردية , لم أذق – ومنذ خمسة أيّام – الطّعامَ ، فأنا جائعٌ .
– من ولاية وان ..؟. كيف وصلت الى هنا ..؟!..
– القدر ..؟!.
– أرسل الرجل صغيره لجلب الطعام من البيت , واخبره في حال رآك أحد ما , قل له أن والدي خرج بلا فطور وسآخذ له الطعام .
كان يستمعان إلى قصّة الشّاب في خوفٍ وذهولٍ وأحدهما قام بجمعِ القطع المفككة للرشاش وتركيبها , ليبدي للشاب بان له خبره بالسلاح ويستعرض قدرته المعرفية العسكرية , ثم وضع مخزن الرصاص جانباً بعد أن جهز الرشاش.
– لحظات وإذ بالطعام وصل ..؟.
– أخذ الشاب العسكري يأكل الطّعام بنهمٍ, وهم ينظرون الى بعضهم وعلى وجوههم مسحة حزن , كان الصّغيران واقفين والقروي كان أصبعه على الزناد وإذ برصاصة أخرجت كادت تودي بحياة الرّاعي الصّغير, خرجت القرية عن بكرة أبيها لدى سماع الطلقة ومن بينهم مختار القرية وسارعا نحو الصوت.
– تقدمهم المختار وحين رأى السلاح , نادى : ماذا حصل وما خطبكم ومن هذا الشاب الغريب معكم ..؟!.
– لنساعده ونأخذه للمضافة وهناك سأسرد لكم حكايته يا مختار ..؟.
– حسناً …حسناً , لينصرفُ كلُّ واحدٍ منكم إلى بيته..وأنتما والشاب رافقوني إلى المضافة وعندما سمع بحكايته , التفت الى القروي وقال :
– لقد سببت لنا مشكلة بإطلاق الرصاصة , لقد جمعت القرية كلها بتصرفك وعلينا أن نرسله فوراً الى مكان آمن والتفت الى الشاب وقال :
– بني اسمعني جيداً , أولئك الذين هربت منهم خبزهم وملحهم على ركبهم ” Nan û xwêya wan li ser çokên wan e ” بإمكاننا أن نوصلك الى الضفة الثانية من نهر دجلة أو الى لبنان هناك معسكرات كوردية للتدريب , وبإمكاني أن أساعدك بإخراج قيد أجنبي أو ورقة مكتوم القيد لك , فكر جيداً فالوقت يداهمنا ..؟.
لكن سرعان ما وصل الخبر الى الجهات الأمنية , ما هي إلا لحظات حتى جاءت دورية , داهموا المضافة , حتّى جاءت دوريةٌ مسرعة دهمتِ المضافة ، فوقف أفرادها على رأس الشّابّ ، وبندقيّتهم مصوّبة إليه.
استشاط غضباً ، وكاد دمه ينبجسُ من عروقه ، فنقّل بصرهُ في وجوههم ، ونظر بازدراء إلى المختار والرّجال ، فقال: بإمكاني الدفاع عن نفسي وافراغ مخزني المليء بالطلقات , لكن الى حد ما أعلم أنّ للفارّ من الظّلم حقوقاً ، وبخاصّة اني التجأت الى بني جلدتني , كل ما ارجوه منكم عدم تسليمي للدولة الشمالية.
رد أحد رجال المداهمة : ضع سلاحك جانباً ولا تخف , بعض الإجراءات الروتينية وسنخلي سبيلك حالاً..؟.
تقدم جنديان , كبلاه واقتادوه إلى السيارة العسكرية , تمعّن في النّظر إلى هيئة المختار والذي ذُهل من المباغتة , خزنها في ذاكرته الى أن تحركت السيارة وتركت خلفها غباراً حتّى توارت عن الأنظار.
بعد دقائق أنزلوه مقيداً وإذ هو أمام البوابة الفاصلة بين الدولتين , اتصلوا بالجهات المعنية لاستلامه , فتح الباب بين الدولتين بعد أن رفع الحاجز الحديدي تقدم مجموعة من الجنود من الجهة الشمالية , نظر إليهم بذهول , عرفهم من لباسهم , التفت الى من طمأنه وقال :
أهذه هي الاجراءات الروتينية التي وعدتموني بها يا عديمي الضّمير والإنسانيّة ..؟!!..
لم يكترث به أحدٌ…, حيا الطرفان بعضهما , ووقعا على محضر تسليمه , ثمّ أداروا ظهورهم ، وبعد ابتعادهم عن البوّابة الفاصلة بضعة أمتارٍ سمعوا رشقاتٍ متتابعة من بندقيّاتهم .