مير بصري
الوزير البحاثة الأديب يوسف غنيمة ينتمي الى أسرة كلدانية قديمة، وهو ابن رزق الله بن يوسف الملقب بالشهبدر بن الشماس سمعان بطرس بن الياس بن الشماس عيسى بن غنيمة بن القس ايشوع بن غنيمة بن ايشوع. ولد في بغداد في 9 آب 1885 ودرس في مدرسة الالياس (1898 – 1902)
ثم واصل دراسته وتعلم اللغات التركية والفرنسية والانكليزية اضافة الى العربية والكلدانية. وأخذ يمارس التجارة في سنة 1906، ولم تلهه اعماله عن البحث والكتابة، فنشر المقالات في جريدة «صدى بابل» (13 آب 1909)، وكتب في جريدة بغداد التي اصدرها مراد سليمان في العهد الدستوري ومجلة لغة العرب للأب انستاس الكرملي وغيرهما.
وقد انتخب عضوا في مجلس ادارة لواء بغداد سنة 1922، وعهد اليه بإلقاء محاضرات في دار المعلمين العليا في السنة التالية. وانتخب في آذار 1924 نائبا عن بغداد في المجلس التاسيسي فكان مقررا للجنة القانون الاساسي فيه. ثم أصدر جريدة «السياسة» اليومية في 3 آذار 1925. وانتخب نائبا عن بغداد في مجلس النواب سنة 1925، وجدد انتخابه في الدورة النيابية الثانية سنة 1928. وعين وزيرا للمالية في الوزارة السعدونية الثالثة (14 كانون الثاني 1928 – 28 نيسان 1929) وثم في وزارة توفيق السويدي (28 نيسان 1929 – 19 أيلول 1929) . واشترك في تأسيس حزب الاخاء الوطني سنة 1930، ثم عين مديرا عام للواردات (29 كانون الاول 1932) فمديرا عاما للمالية (16 آب 1934). وانتخب نائبا عن بغداد (كانون الاول 1934 – نيسان 1935). واعيد تعيينه مدير عام للمالية (24 كانون الأول 1936) فمدير الاثار العام (20 تشرين الثاني 1941 – حزيران 1944)، وتولى في الوقت نفسه ادارة المصرف الزراعي الصناعي بالوكالة من تشرين الثاني 1941 الى آذار 1942.
وعين بعد ذلك مديرا عاما للتموين 0حزيران 1944) فوزيرا للتموين (18 تشرين الثاني 1944 – 23 شباط 1946)، وعين عضوا بمجلس الاعيان (14 ايار 1945). وتولى وزارة المالية ووكالة وزارة التموين (اول حزيران 1946)، ثم تخلى عن وكالة التموين (اول آب 1946) وظل يحمل اعباء وزارة المالية الى 21 تشرين الثاني 1946. وعاد وزيرا للمالية في وزارة صالح جبر (29 اذار 1947 – 27 كانون الثاني 1948.
واشتد عليه المرض في ايامه الاخيرة فقصد لندن مستشفيا وقضى نحبه بها في 10 آب 1950، ونقل جثمانه فدفن في بغداد.
البحاثة المحقق:
كان يوسف غنيمة شخصية المعية متعددة المزايا والسجايا برزت في حقل التجارة والاقتصاد والصحافة والبحث والسياسة والادارة.
ان الالمام بنشأته يقتضي امعان النظر في حال الشباب البغدادي الناهض في نحو سنة 1900، فلقد هبت على مدينة السلام الراقدة في مستهل المائة العشرين نسمة الحياة، فتحفز ناشئتها الى طلب العلوم والمعالي، فمنهم من انخرط في السلك العسكري الذي اتاحت الدولة العثمانية منذ عقود من السنين لأبناء ولاياتها البعيدة فرصا مؤاتية للانضمام اليه، ومنهم من شد الرحال الى الإستانة لينهل من معاهدها ومدارسها، ومنهم من اكب في نفس بلدة على تحصيل ما تيسر له من العلوم القديمة او الحديثة..
وقد اغترف فنانا من خير ثقافة عصرية هيأتها عاصمة الرافدين
حينذاك فالم باللغات الفرنسية والانكليزية والتركية، وثابر على الدرس والمطالعة اناء الليل وأطراف النهار، حتى إذا ما نزل الى معترك الحياة العملية، اخذا يزاول التجارة ويكاتب المجلات الشهيرة في مختلف الاقطار العربية.
شرع يوسف غنيمة بالكتابة في مجلة “المشرق” البيرونية سنة 1904، وعمره آنئذ لا يتجاوز التاسعة عشرة، وكان اول بحث له مترجما عن الانكليزية يتعلق بمواليد براهمة الهنود. ثم والى النشر في تلك المجلة سنين طويلة، فكتب عن الرها والحيرة والمناذرة، وعن يختيشوع الطبيب وقبر عزرا الكاتب، وعن الخرافات والامثال العامية، وعن النخل والتمر والزراعة في العراق.. وكان معظم المقالات التي نشرها في تلك المجلة وسواها من الصحف السيارة نواة لكتب اصدرها فيما بعد في موضوع الاقتصاد والتاريخ.
وفي 13 آب 1909 أصدر المعلم داود صليوا جريدة “صدى بابل” فكان يوسف غنيمة مديرها في أول عهد صدورها. ثم اجال فلمه في مجلة “لغة العرب” التي انشأها الأب انستاس الكرملي قبيل الحرب العظمى. وبدأ في سنة 1918 بنشر بحوثه في مجلة “المقتطف” المصرية، فكتب عن المرأة في العراق ونقود الورق الخ. وفي 3 اذار 1925 أصدر جريدة يومية باسم “السياسة”، فلم تدم سوى ستة أشهر.
وقد وضع العشرات من الكتب والبحوث المهمة في السياسة والاجتماع والصحافة..
الروائي الاديب
كان يوسف غنيمة من رواد القصة الطويلة، فنشر سنة 1910 قصة بعنوان “الاوهام” في مجلة “خردلة العلوم” لصاحبها رزوق عيسى. ثم كتب رواية حسنة الرصف والوصف، جميلة الحبك، متسلسلة الحوادث. لكنه تقلد مهام الوزارة بعد نشر ثمانية فصول منها، فصرفته مشاغل العمل عن اتمامها.
تلك الرواية هي “غادة بابل”، وهي – كما ذكر هو نفسه – رواية تاريخية اخلاقية تصف الحياة في بابل، وقد نشر فصولها في مجلة لغة العرب في سنتيها الخامسة والسادسة (1937 – 38).
السياسي والمالي
ذلكم يوسف غنيمة الصحفي البحاثة المؤلف، اما يوسف غنيمة السياسي المالي العامل في خدمة بلاده، فقد بدأ نشاطه بعد تحرير العراق من السيادة العثمانية ونشوء الحركة الوطنية. كان يؤمن بتعليم الشعب وتثقيف الشباب، فعمل في سبيل ذلك في انشاء مكتبة السلام العامة والمشاركة في المعهد العلمي ومجلس المعارف والقاء المحاضرات في دار المعلمين والمنتديات، وقام بأعباء النيابة والوزارة، فكان معتدلا في آرائه، جادا نشيطا في اعماله ، قويا في الحفاظ على حقوق وطنه من غير جلبة ولا ضجيج، قال في ذلك رفائيل بطي: “وقد سمعت من يوسف سلامة رئيس قلم الترجمة في دار المندوب السامي في بغداد، وكان يحضر المذكرات للترجمة بين الوفدين العراقي والبريطاني حول معاهدة سنة 1927 وملاحقها: ان غنيمة، وهو عضو في الوفد، من اصلب المفاوضين واشدهم تمسكا بالمصلحة العراقية، ومناقشاته للإنكليز المفاوضين نسترعي انتباههم بقوة الحجة واستنادها الى الاطلاع الواسع..
لقد اقترن اسم يوسف غنيمة بالفضل والنزاهة وكرم النفس وعفة اليد واللسان. قضى في المناصب الرفيعة عهدا طويلا وهو يسكن في دار آله القديمة ولا يقتني سيارة، في حين امتلك الكثير ممن لم يدركوا شأوه ولا بلغوا منزلته القصور الشامخة والسيارات الفخمة والرياش الباذخة. وقد سأله في ذلك بعض اصحابه، فأجاب: يخال لي ان راتبي لا “بركة” فيه!
وكان مؤدبا جم التواضع، فمن نوادره انسه وقف في مجلس النواب، وهو وزير المالية سنة 1928، يرد على خطب ممثلي الأمة في مناقشة ميزانية الدولة، فاستهل كلامه مشيرا الى الاساليب الديمقراطية، داعيا الى نبذ الالقاب والمبالغة في المجاملات حرصا على وقت المجلس الثمين، ثم قال: والآن، لندخل في صلب الموضوع: لقد تفضل حضرة صاحب الفخامة النائب.. باشا.. فلم يكن من المجلس الا ان ضج بالضحك والتصفيق.
لم احسب حين زرته مودعا قبيل سفره الاخير الى انكلترة ان ذلك سيكون آخر عهدي بهذا الرجل النبيل. ان المرض الذي الم به في اعوامه الاخيرة لم يكن الا ليزيد قواه العقلية ارهاقا ونشاطا، فلم يخط على البال ان ينطفئ سراج حياته الوهاج بتلك السرعة والفجاءة. لكن القدر قد شاء غير ذلك، فاختر منه المنية في ديار الغربة واعيد جثمان ليوارى التراب في ارض الوطن الذي احبه وأخلص له وعمل في سبيله بصمت وسكون.