انطباعات من ذاكرة النقد المسرحي … قراءة في تجربة الفنان جاسم العبودي

 

د. تيسير عبد الجبار الآلوسي

يرى بعض النقاد الطارئين على دراسة تاريخ الإخراج المسرحي يرون فيه مجرد ترفِ معرفي أو دراسة من باب التوثيق والاطلاع. وهكذا يحوِّل هؤلاء الدراسات النقدية والأكاديمية الرصينة إلى حال من التشدق بذكر الأسماء اللامعة في سماء الإخراج المسرحي والتباري في ميادين المهرجانات الدولية والسباقات التنافسية بآفاقها الضيقة وليس مما يمكن الإفادة منها على صُعُد الارتقاء بمعطيات جمالية مضمونية مفيدة…

فيما ثبت من التجربة الإنسانية أن لكلّ إبداع قواعده وأسسه المعرفية التي من دونها لا نستطيع أن نشير إلى علامة إبداعية واحدة لأنً ما سيُنظر إليه لن يكون سوى مظاهر سطحية بدلا من قراءة في إبداع جماليات راقية. ولابد لنا بعد ذلك أنْ ننطلق من التعرف إلى تجارب الماضي البعيد والقريب ومن أهمية النظر في استخلاص أبعادها وثمارها وأخذ العبرة والدروس بدلا من المراوحة في موضع والدوران فيه من غير تقدم إلى الأمام بالتوافق مع تقدم الحاجات الجمالية للإنسان واختلافها باختلاف المراحل المعنية بالدراسة أو القراءة والمتابعة..

 

 

 

لقد ظل المخرج والإخراج في الغالب بعيداَ عن ذهن الجمهور المتلقي بسبب من انعدام الاتصال المباشر بين المتلقي والمخرج وإلى تصور بعضهم بأنً المخرج مجرد مترجم لإرشادات وتوصيات يكتبها المؤلف الدرامي فضلا عن خطورة تأثيرات الثقافة السمعية وعمقها عند شعوبنا بالقياس إلى حداثة الثقافة البصرية -نسبياَـ ما يجعل من كلّ هذه الأسباب أمرا فيه كثير من التعقيد والصعوبة وفيه كثير من التعرجات غير الطبيعية يعرقل قراءة المخرج وتجربته الإخراجية..

وحتى ندخل في قراءتنا لتجربتي المخرجين جاسم العبودي وإبراهيم جلال أذكِّر باتصاف تاريخ الإخراج المسرحي العراقي بغنى الأساليب والمعالجات الإخراجية وتنوع الرؤى يصل أحيانا إلى حدِّ التناقض في التصورات والطروحات التي يقدِّمها المخرج نفسه بين عمل مسرحي وآخر. ولكن الأمر يختلف مع قراءة مخرج مبدع ورائد تأسيسي لفن الإخراج المسرحي في العراق كالعبودي وجلال اللذان وضعا أسساَ َ وتقاليد راسخة وإيجابية في هذا الفن عبر دروسهما وتجاربهما قوية التأثير.

عمل الفنان جاسم العبودي مع فرقة المسرح الحر، ما كان له أثره المميَّز في المسرح العراقي آنذاك. وكان في عمله [واقعي] الاتجاه إذ تميزت أعماله بالدقة التاريخية الأمر الذي يستدعي المعالجة الواقعية المناسبة للتعبير الفني بآلية الدقة التاريخية. ولقد نقل المبدع العبودي طريقة الأستاذ الكبير (ستانسلافسكي) متأثرا بمفردات رئيسة منها بخاصة مسألة توجيه (ممثليه) حيث فرضت حال قصور التقنية المسرحية في زمنه مسألة إبراز دور الممثل وتأكيده ولذا وجدناه يعتمد عليه [أي على الممثل] في معالجاته الفنية الإخراجية.

 

 

وكان للفنان العبودي فضل في تصحيح الوضع السائد في طريقة الأداء (التقليدية) في المسرح العراقي إذ يمكن الإشارة هنا من باب التذكير فقط إلى الأداء الخطابي على شاكلة نموذج [الفنان المصري] يوسف وهبي. وفي التقنيات المسرحية مارس عددا من الآليات التي برهنت على لمساته الباهرة التي أفاد منها تلامذته وواصلوا ابناء على تشكيلاته الإبداعية وبصريا يمكن أنْ نتوقف سريعاَ َ عند توظيفاته في مجال الإضاءة. فقد وظف الإضاءة في تعزيز الإيهام المنظري عبر مساقط منوعة كان يستهدف منها قيما بصرية بوصفها مفردات دالة بمحتوى ومضامين تفسيرية حاملة لرسائل دلالية ملموسة.

وألغى الفنان العبودي من ديكوره المنظر المرسوم على الخلفية مطوراَ َ ذلك إلى المنظر بوصفه بيئة مجسَّمة مستخدما لهذا الغرض الكتل والأجسام.. كما يمكن للمتلقي أنْ يجد قراءات مهمة تدخل في خطاب العرض المسرحي الذي يديره المايسترو العبودي. فكانت لقطع مناظره معانِ ودلالات متنوعة غنية تضيف لدلالات الحوار الدرامي ومعطياته ومحتوى الرسالة فيه، فهي رموز مُفسِّرة, فالعجلة على سبيل المثال تدل على الزمن كما في بعض مسرحيات قدَّمها والشمعة إلى الفكر وما إلى ذلك من مدلولات يمكن الاستدلال عليها من السياق وتداعيات لغة المفردات البصرية ومعجميها العام المستدعى من الذاكرة الجمعية والخاص المقروء في إطار معطيات خطاب العرض ذاته.

ومن ناحية أخرى يمكن أنْ نستدعي من الذاكرة انطباعا مخصوصا في أعمال العبودي حيث تميزت طريقته باعتماد التكامل بين النص وعناصر العرض الأخرى. فرفض جاسم العبودي تشويه المخرج للنصِّ بحجة إضفاء لمساته واتبع طريقة (ستانسلافسكي) في دراسة النص وتحليله أو ما يمكن بشيء من الحذلقة تسميته من هذه الناحية [فقط] المخرج المفسِّر ولكوننا أمام مخرج من طراز مبدع لا يكتفي بالإدارة ولملمة العناصر فإنَّ إيقاع العمل عنده كان قد تألـَّف من توحيد كل مكونات العرض بطريقة توليدية مبدعة.

 

 

 

والعبودي بعد ذلك انصبت غايته على النهوض بحياة الإنسان والمجتمع العراقيين، ولم يتوقف عند حدود أية تصورات [تجريدية بحتة] تبعد بالمسرح عن جوهره الإنساني وتجعله مجرد هلوسات وخطاب عرض بصري للإبهار أو لتزجية وقت بلا قيمة مضمونية. ونحن بهذا يمكن أنْ نقول إنَّ الفنان العبودي مال إلى المخرج المفسِّر الذي يُخلـِص للنص ويحرص عليه بما يعمِّق القيم الدلالية والمضامين أو الرسائل المفيدة التي يبعثها عبر خطاب أعماله المسرحية. من هنا كان دعمه لدور النص ولتطويره، فيما لم يفقد في الوقت نفسه روح المخرج المبدع في تكوين العرض المكتمل وخطابه المسرحي المركـَّب مثلما أسلفنا في هذه الانطباعات المستدعاة من الذاكرة ومن بضع وريقات محررة منذ سنوات بعيدة.. ولعلَّ عدد من نقادنا المعروفين بخاصة المجايلين يمكنهم إغناء قراءة جدية أعمق وأكثر تدقيقا وتخصصية بما ينفع أجيال العمل الجديد في مسرحنا اليوم.

قد يعجبك ايضا