راكان دبدوب.. فنان المرأة والمدينة الملونة

 

علي إبراهـيم الدليمي

بداية

راكان دبدوب أحد الفنانين المجايلين لجيل الرواد، الذين أثروا مسيرته الإبداعية، التي بدأها هاويا وهو في الصف الثالث الابتدائي عام 1951، ليتميّز فيما بعد ويخط لنفسه تجربة فريدة منذ دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد.

البعد الثالث

بعد إنهائه لدراسته الفنية في المعهد عام 1961، التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في روما، وقد تخصص في نحت الخشب لمدة سنة واحدة بأكاديمية سان جاكومو في روما، ليواصل نشاطه بعد ذلك في دراسة عامة للفنون التشكيلية. وخلال السنوات الأربع في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، كان دبدوب واحدا من أنشط الفنانين التشكيليين العراقيين، إن لم يكن أنشطهم جميعا، ولم يكن نشاطه كميا فقط، بل كانت معارضه الشخصية مراحلَ نوعية يبرز من خلالها بحث الفنان الدؤوب عن التجديد المستمر، حيث كان يهتم بمتانة البنيان للوحاته القوية والمترابطة، مما حدا ببعض المعلقين إلى القول إن راكان يرسم وكأنه ينحت، وبالفعل فقد كانت أعماله المنفذة بشكل خاص في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي، تمتلك من القوة والكثافة اللونية ما يوحي للناظر بأنها ذات بعد ثالث.

راكان دبدوب يبحث دائما عن التجديد ولا يحب التقليد أبدا، لذا خلق لنفسه ولفنه أسلوبا مميزا لا يستطيع أي فنان آخر أن ينافسه عليه

دبدوب واحد من أولئك الرسامين الذين تعاملوا مع الثقوب في جسد اللوحة باعتبارها عنصرا ثابتا في ذلك البناء، وهو ما كان يفعله عدد من الرسامين الذين كانت الثقوب بالنسبة إليهم عنصرا بنائيا وجوهريا في تشييد لوحاتهم، حيث إنه نحات يتعاطى الرسم. الكاتب والصحافي صبحي صبري، يصفه بأنه “عراقي معطاء، غزير الإنتاج، واقعي اللمسات، موهوب في التقاط المرئي أمامه. يجسد الحقائق بشكل تعبيري وفلسفي وحياتي. وهو مدرسة سيعطيها التاريخ مكانتها الكبيرة حين يسجل للفن شواخصه العالية. الفنان راكان دبدوب، فنان مسكون بالضوء والظل واللون وبمدينته الموصل. كاد الفن يأخذ حياته كلها. فهو عندما يغضب يرسم، وعندما يسعد يرسم، وعندما يضجر من الرسم يرسم. أدواته يده واللون، ومفرداته المرأة والموصل بقبابها وأزقتها وجوامعها وآثارها وتراثها. فهو نحات ويرسم، لذلك تأثير النحت ظاهر في لوحاته، خصوصا في تجاربه الأخيرة بعد المرحلة التجريدية الصرفة، فكل لوحة هي عبارة عن عالم يقدمه إلى المتلقي، هو فنان يرسم طريقه بثقة عالية لكي ينضمّ إلى حلقة المبدعين الكبار الذين يؤسسون لفن تشكيلي عربي”.

رسم الفنان التشكيلي راكان دبدوب “مدينته” الموصل في لوحات كثيرة معبرة عن إحساس هذه المدينة. وانتقل بها من هوية وعمق وعمارة المدينة إلى تجريد كامل لبانوراما رؤيته المثالية لها. أخرجها من حلة المدينة الضبابية الشتائية بألوان داكنة حزينة، ومن عمق أزقتها التي تطول تحت سماء بلون الأرض، والتي ترتفع فوقها القباب الزرقاء والنوافذ الموصلية المغلقة، فنقلها إلى مدينة ربيعية هادئة في تكوين متماسك وانتقالات لطيفة بين المدينة والأفق في تكوين مثالي الشكل، قباب تُرفع منها الصلوات وأبواب مفتوحة للجميع، نوافذ مضاءة بألوان زاهية. مدينة خضراء، بسماء ذهبية زاهية بلونها وصفائها. والخطوط المائلة التي ترسم ظلال البيوت والجوامع تحولت إلى سطوح فأضافت عمقا جديدا وحادا إلى هذه المدينة.

لقد خلد الفنان مدينته بسمفونيته التشكيلية التي ستبقى عالقة في ذاكرة التاريخ دائما. يبحث دائما عن التجديد ولا يحب التقليد أبدا، لذا خلق لنفسه ولفنه أسلوبا مميزا لا يستطيع أي فنان آخر أن ينافسه عليه. لقد درس شكل الفوهة كثيرا منذ أن كان طالبا في روما، وقام بتطويرها وأصبحت الفوهة مفتاحا وختما لجميع لوحاته، فقلما تجد لوحة له لم يختمها بفوهة أو أكثر، إنها الختم الأسطواني له. لقد رسم الطبيعة كما هي ورسم التاريخ كما هو في الكتب أيضا. يرسم الأشياء ويبسطها إلى درجة الكمال ثم يهب لها لونا وملمسا تشع منهما ألحان وأشعار، أكثر الشعراء المعاصرين هم من أصدقائه ومنهم نزار قباني نفسه ودواوينه التي حفظ منها الكثير.

 

 

قد يعجبك ايضا