هيمو اناهيا
التمييز الأكاديمي في مدارس البعث: اغتيالٌ للعدالة التربوية
لا شيء أشد قسوة من أن يُكافَأ الجهد بالخذلان، وأن يُستبدل الاستحقاق بالمحسوبيات، وأن يُصبح التمييز لا مجرد ممارسة خفية، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى سحق الذكاء عندما يكون لصاحبه هوية غير مرغوب بها. كان يمكن أن يكون التعليم مساحة للارتقاء فوق الاختلافات، لكنه في ظل مدارس حزب البعث العفلقي الشوفيني، لم يكن سوى ساحة أخرى لقمع الكورد، حتى وهم أطفال يحملون أقلامهم بدلًا من البنادق.
حين وقفت تلك الطالبة الكوردية، بذكائها الفذ وتفوقها اللامع، كان يُفترض أن يكون المقعد الأول من نصيبها، أن تُكرَّم كما يليق بها، أن تُحتفى بها كما احتفي بمنافستها غير الكوردية التي لم تصل إلى مستواها العلمي. لكن، في نظامٍ يرى في الكوردي خطراً حتى لو كان طفلًا موهوباً، لم يكن الأمر يتعلق فقط بمن يستحق التكريم، بل بمن يجب أن يُقصّى عمدًا.
التربية في خدمة الشوفينية
ما حدث لم يكن صدفة ولا هفوة فردية، بل سياسة متعمدة اتبعتها الأنظمة العروبية الشوفينية، حيث لم يكن يُسمح للكوردي بأن يتفوق دون أن يدفع ثمنًا باهظاً. كان التكريم دائماً موجهاً محسوبًا، مدروساً بعناية؛ ليس وفقاً للجهد المبذول، بل وفقاً للهوية السياسية والقومية.
في فلسفة التربية الحديثة، يؤكد التربويون أن الجوائز والتكريمات يجب أن تُمنح وفق معايير عادلة، وإلا فإنها تفقد قيمتها التربوية، وتتحول إلى أداة سياسية رخيصة لتوجيه المجتمع. لكن في مدارس البعث، لم تكن التربية سوى أداة أخرى للقمع، تماماً كالإعلام، والجيش، وحتى المناهج الدراسية التي لم تذكر حرفاً عن تاريخ الكورد أو ثقافتهم.
بيير بورديو، عالم الإجتماع الفرنسي، تحدث عن العنف الرمزي الذي تمارسه الأنظمة عبر المؤسسات التعليمية، حيث لا يُمارَس القمع بشكل صريح، بل يُفرض من خلال أدوات تبدو “شرعية”، كالتكريمات الزائفة، والمناهج المنحازة، والفرص التي تُمنح للبعض وتُحرم من آخرين، فقط لأنهم ينتمون إلى هوية غير مرغوب بها.
الغبن الكوردي… بين الأمس واليوم
هذا التمييز لم يكن عابراً بل كان سياسة مدروسة تهدف إلى كسر ثقة الطالب الكوردي بنفسه، إلى دفعه للشعور بأنه مهما بذل من جهد، فلن يُنصف، وأن الجدارة وحدها لا تكفي. كم من عباقرة كورد حُرموا من مواقعهم الطبيعية لأنهم لم يكونوا من “السلالة الصحيحة” وفقًا لمنطق الأنظمة العروبية الشوفينية؟ كم من شاب كوردي اضطر إلى الهجرة، أو العيش في الظل، فقط لأنه لم يكن مطلوباً أن ينجح؟
لكن، وكما قال المفكر التربوي باولو فريري: “التعليم إما أن يكون أداة للتحرر، أو أداة للقمع”. وطالما أن التعليم كان في يد أنظمة قمعية، فقد تحوَّل إلى أداة أخرى للتميّز والتهميش، بدلاً من أن يكون فضاءً للنهوض والإرتقاء.
اليوم، بعد سنوات، وبعد كل ذلك الغبن، ما زال السؤال مفتوحاً يُطرح : هل السلطة تمكنت من سحق الذكاء الكوردي؟ الجواب واضح، لا. لأن الذكاء الحقيقي لا يحتاج إلى شهادات مزورة، ولا إلى تكريمات زائفة، ولا إلى تصفيق إعلامي. الذكاء يفرض نفسه، كما تفرض الشمس نورها رغم كل الغيوم.
الذكاء الكوردي… باقٍ رغم التعتيم
إن لم يُكرَّم الكوردي في وطنه، فسيُكرَّم في المنفى. إن لم يُنصف في مدرسته، فسيُنصفه التاريخ. وإن حاولوا تهميشه، فسيظل عقله مضيئًا، كالشعلة التي لا تنطفئ. لأن ما يُبنى على الغبن لا يدوم، وما يُبنى على العدالة وحده يخلد.