محمد لفته محل
عندما كنت ابحث عن كتب الدكتور سليم الوردي (1942_2015) في شارع المتنبي اجابني بعض الباعة (تقصد علي الوردي!) أو (عدنا بس علي الوردي) وبعض الباعة لم يكن يعرفه او لا يعرف كتبه، وبقيت جمعتين ابحث عن كتبه حتى وجدتها؛ بعضها بين اكوام الكتب المتكدسة عشوائيا على الارض التي تباع بأسعار مخفضة. وشخصيا عندما سمعت اسم الدكتور سليم اول مرة ظننت انه ابن العلامة (علي الوردي) او امتداد لمشروعه.
واول كتاب عرفني به هو (ضوء على ولادة المجتمع العراقي المعاصر) الذي فاجئني بدقة وعمق تحليله. وتلك ميزة الدكتور سليم اتصافه بالرؤية العلمية والرصانة البحثية مع ذلك ظل الدكتور مغموراً في شهرته الشعبية ومعروف نخبوياً في الوسط الثقافي. وعليه سأكتب ملاحظات عن اسلوبه بالكتابة وموجز لرؤيته التاريخية للمجتمع العراقي المعاصر كمقدمة ثم الخص كتبه الثلاثة التي اصدرها بعد 2003/4/9 لإعطاء صورة عامة عن كتبه. وهي (مقتربات الى المشروع السياسي العراقي 1921_2003، الزمان، 2005) (ضوء على ولادة المجتمع العراقي المعاصر، كتاب الصباح الثقافي ع15، 2009) (الاستبداد النفطي في العراق المعاصر، دار الجواهري، 2013) وهذا المقال هو اعداد أكثر منه تأليف.
كان الدكتور حريصاً على ان تكون كتاباته علمية تستند الى لغة الارقام وتحليل تاريخ الظاهرة المرصودة لفهمها واستشرافها بالمستقبل، وعدم الاعتماد على عامل واحد فقط في تفسير اسبابها. وكان أكثر حرصاً على ان تكون اللغة العلمية المكتوبة يسيرة لفهم القارئ وليست اكاديمية بحته من حيث المصطلحات والانشاء، وحرص على ايضاح اي مصطلح يفتتح به موضوع كتبه او فصول كتبه. واهتمامه بالقارئ (الذي يذكرنا باهتمام العلامة الوردي بالقارئ) يتعدى ذلك الايضاح والتبسيط الانشائي والاصطلاحي الى اشراك رأي القارئ عبر بريده الالكتروني الخاص به المكتوب في بداية الكتاب راجياً من القراء مراسلته عبره لطرح افكارهم وملاحظاتهم، وهذا ليس تواضعاً بقدر ما هو جزء من اسلوبه ومنهجيته في العمل الجماعي.
تجاوز صلابة الايديولوجيا الماركسية وراح يدرس الواقع العراقي موضوعيا مجترحاً مصطلحات اجرائية تتناسب مع الحالة الاجتماعية وهو ما كان يحض عليه العلامة الوردي قبله (علي حسين الوردي) فقد رأى الدكتور سليم ان الوضع الطبقي للمجتمع العراقي هلامي مخرب بفعل السياسة، وعليه لا تنطبق عليه فرضية صراع الطبقات الماركسية.
واتمنى من عائلته جمع مقالاته في كتاب ونشر مخطوطاته المتبقية وذلك لأهميتها المعرفية للمجتمع العراقي.
رحل الدكتور سليم عنا بصمت وهدوء مثقفاً مغموراً اعلامياً وشعبياً زاهداً الاعلام والسياسة، بعد ان ادى رسالته بوفاء للعراق والعراقيين راسماً معالم طريق للمستقبل عبر قراءة الماضي السياسي والاجتماعي وتحليله لاستشراف المستقبل. واتخيل لو ان الدكتور سليم بقي يكتب في العقود الثلاثة الصدامية لرفدنا بكتب افدنا منها كثيراً، لكن احداث العراق قادت لعطل كفاءاته وهجرة عقوله وتصحيره من نخبه المثقفة اسوة بتصحير مياهه. فعاش الدكتور بزمان غير زمانه.
تحية واجلال واكبار وتقدير للدكتور سليم الوردي الأبن البار للعراق راقدا بقبره بسلام.
إشارة عن رؤية الدكتور سليم العامة لتاريخ المجتمع العراقي المعاصر:
ان المستقبل لا يمكن استشرافه ما لم نعود الى تاريخه لتتكشف حقائق الأشياء. وليس أمام الباحث إلا اللجوء الى تفكيك المشهد الى عناصره الأولية، والتحري عن جذورها في المشروع السياسي السابق. لتجاوز تعقيدات المشهد السياسي الراهن. وليس الهدف هو الرجوع للماضي واستعراض احداثه او استذكارها، بل نعيد قراءتها برؤية جديدة في ضوء النهاية المأساوية التي آل اليها المشروع السياسي السابق. ولهذا اعتدنا على التعامل التجزيئي، وقاد ذلك إلى: غياب الحكم الموضوعي للمنظومة بأكملها، ومحدودية المعرفة لمواطن ضعف المنظومة، وسيادة ردود الفعل في التعامل مع المشاكل. ان واحدة من أخطر إشكاليات وعينا السياسي: حكمنا على المنظومة من خلال أحد عناصرها. ويخيل لنا ام معالجة هذا العنصر يكفل اصلاح المنظومة بأكملها، ويفوتنا أن فساد هذا العنصر لا يحدث من تلقاء ذاته، انما بسبب خلل في المنظومة. ولم يعد الخطاب التزويقي، للتمويه على انقسامات المجتمع العراقي أمراً مقبولا ومجديا، بعد ان افصحت هذه الانقسامات عن نفسها على نحو سافر وعنيف. بيد ان الاحكام لا يجوز ان تأتي مستعجلة كرد فعل على الاحداث الجارية. فكون الانقسام الطائفي هو الذي طغى على سطح الاحداث بعد 2003 لا يسوغ للباحث ان يرقى بهذا الانقسام الى مصاف التناقض الاساس الذي حكم مسيرة المشروع السياسي العراقي. ويغفل الانقسامات الأخرى التي غالباً ما كانت ولاتزال تتداخل معه. لم تمثل الطائفية تاريخياً التناقض السياسي البنيوي الأساس للمجتمع العراقي. ان السياسة الطائفية والشوفينية ترتويان من منبع واحد، وهو الاستبداد وضيق الأفق السياسي.
يختزن الفرد العراقي في اللاشعور بواعث على النفور من التقييم أسستها القيم الاجتماعية التي تدعو الى التستر على العيوب. ويصيب معظم قرائنا السأم من المقالات والنتاجات الفكرية التي تعتمد على الجداول الرقمية، ان استمرار عدم الاكتراث بالتقييم الدقيق للأشياء وخاصة التقييم الرقمي إنما يشف عن الاصرار على الانفلات المعرفي، والاستهانة بخطورة تداعيات ذلك في وعي المجتمع.
عاش العراقيين اطول فترة انقطاع حضاري سبعة قرون بعد زوال الحضارة العباسية نتيجة تلاشي الإطار المجتمعي الذي يجمعهم وانحلالهم الى جماعات متفرقة منكفئة على ذاتها.
كانت الوطنية في العهد العثماني وحتى بدايات القرن العشرين مفهوماً هلامياً، الوطن كمقولة سياسية لا يأخذ ابعاده الفعلية الا في إطار كيان سياسي مستقل: الدولة ذات السيادة الوطنية. وتجربة المجتمع العراقي مع مؤسسة الدولة مريرة للغاية، خاصة عبر زهاء سبعة قرون تعاقبت على حكمه دول اجنبية محتله، عمقت بينه وبين مؤسسة الدولة.