الفكاهة في شعر الملا عبود الكرخي 

 

عادل العرداوي

بادر الشاعر والباحث كامل منصور الكعبي الى استذكار علمين شعريين بارزين من شعراء العراق الشعبيين كان صيتهما واسعا خاصة في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، وأعني بهما الشاعرين الراحلين الساخرين الملا عبود الكرخي البغدادي ومعاصره حسين قسام النجفي.

فقد أقدم الكعبي على اصدار كتيب صغير يضم (54) صفحة من الحجم المتوسط من تأليفه حمل عنوان (الفكاهة في شعر حسين القسام النجفي والملا عبود الكرخي).

وقبل أن اقوم باستعراض ماورد في ذلك الكتيب أقول إن الكتابة عن هذين الشاعرين الرائدين الكرخي والقسام تعد مغامرة لا تحمد عقباها لان كل واحد منهم يستحق اكثر من كتاب كبير؛ لما يملكانه من ثراء وابداع في المجال الذي اختصّا به، وأعني به الشعر الشعبي الناقد الساخر الذي يختلف تماما عن بقية تناولات الشعراء التقليدية المعروفة، وذلك لارتباط الشعر الساخر والناقد بحياة الناس اليومية، والدليل ان أشعار الملا عبود الكرخي وحسين قسام مازالت متوقدة الجذوة في وجدان المجتمع العراقي بالرغم من رحيلهما عنا منذ أكثر من نصف قرن مضى.. فكيف نلم بتراثهما الغني والواسع كالخضم بكتيب صغير بحجم كتاب الزميل الكعبي الذي لا يجوز لي أن أقلل من شأن مبادرته التي قام بها لاستذكار هذين الشاعرين بل أثني عليه خاصة إذا ماعرفنا أن الكعبي هو من تحمّل تكاليف اصدار وطبع هذا الكتيب الممتع..

 

 

فلو بدأنا مثلا بالشاعر الملا عبود الكرخي المولود عام/ 1861 والمتوفى في عام/ 1946 ميلادية، لوجدنا أنّ الكرخي كان يعد من ابرز اعمدة المجتمع البغدادي في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، وكان ذو سطوة وشخصية قوية وله معرفة تامة وتفصيلية بدواخل واسرار المجتمع العراقي بأسره وليس البغدادي، وأشعاره التي تركها لنا تؤكد ذلك، وايضا موسوعيته الثقافية الشعبية، وكذلك ممارسته للعديد من الاعمال التي منحته الفرصة لأن يغوص في خفايا الحياة الاجتماعية وعدم مهادنته للظلم والتسلّط وللممارسات المعوجة التي يضربها بسوط شعره الناقد وتعليقاته اللاذعة في صحفه العديدة التي كانت تؤرق سلطة ذلك العهد التي كثيرا ما كانت تلجأ لإيقاف وغلق تلك الصحف الشهيرة بل وسوق صاحبها الكرخي الى أقفاص المحاكم..!

 

 

وقد عبّر الكرخي عن وضعه الصحفي غير المستقر بالعديد من القصائد الساخر التي في بعض الأحيان يهجو نفسه فيها لأنه اختار الصحافة مهنة له:

صحافي يكرم الله وشاعر الجمهور

اسمي بالحصاد ومنجلي مكسور

تالي الخيط مني ضاع والعصفور

في وشمس أذرع انطح احياطين

والكرخي مغرم بتضمين اشعاره للأمثال الشعبية السائدة التي كان الناس يرددونها مثل المثلين الذي اوردهما في هذه الرباعية الشعرية وهما (اسمه بالحصاد ومنجله مكسور..) و(راح الخيط والعصفور..). وفي موضع اخر يعود ليهجو نفسه ومجتمعه بشكل لاذع:

ضاعت الحانه وصفينه

ناس غربه بالمدينة

يغلط الحاقد علينه

والمخنث والزنانه..!

وتستمر انتقاداته في موضع آخر:

سلبوا ثروتي وصفيت انه معتاز

مفلس الهث واركض والعشا خباز

 

 

وهنا ايضا وعبر هذا البيت الذي يصور فيه خساراته في التجارة والزراعة والصحافة التي طالما تعرض لها.. يعود بنا الى المثل الشعبي العراقي الشهير:

(يركض والعشا خباز..) والمعروف أن الخبّاز انما هو نبات طفيلي ينمو في البراري والمناطق الزراعية بكثرة بإمكان اي شخص ان يقطف منه ما يشاء وهو نبات لا اهمية غذائية له!

وعن سعر الكهرباء العالي جدا الذي كانت توزعه شركة الكهرباء الانكليزية على الدور السكنية والمحلات التجارية وما كان يخلقه من حالة تذمّر بين المستهلكين الذين لا يقدرون على دفع تلك الاسعار ينبري الكرخي الصحفي مخاطبا ومقرعا نفسه ثانية:

الكهرباء ارخيصه اكتب

بالجريدة ولو تكذب

دائما للسطره (علّب)

يا رجل من يضربوك…!

والمقصود هنا بالجريدة هي (الكرخ) التي كان يصدرها الكرخي وهي الجريدة الوحيدة التي كانت تصدر في جانب الكرخ آنذاك اعتزازا من الكرخي بكرخيته مما دفعه لتأسيس مطبعة اسماها مطبعة الكرخ ايضا ليطبع فيها جرائده العديدة التي منها: الكرخ والكرخي والملا والمزمار..

ومن بين القصائد الشهيرة للكرخي التي اشار اليها الكعبي في كتيبه المذكور وتحديدا في الصفحة ٢٠ منه هي قصيدة (المستحيلات) التي اسماها الكعبي (ايصير) وهي خلاف ذلك يقول الكرخي فيها:

يصير امي ويفتهم شعر القريض

ايصير بالدنيه اسمعت ديج يبيض

يصير كل متخوم ما يصبح مريض

يصير زرع التتن بالشامية…!

ايصير نرسل (للهويدر) برتقال…؟

ايصير اودي تتن غرشه (للجمال)

ايصير للموصل ندز حبييه..

ايصير واوي ايصير حارس بالخضر

يصير عاش النخل بالنمسا ومجر..

ايصير اكرع يطلع ابراسه شجر..

ايصير معمل قند بالتاجيه..

وهكذا يستمر الملا الكرخي في سخريته ونقده المقذع لكل ما هو معوج وغير طبيعي وفيه ضرر على المجتمع؛ لذلك بقيت قصائده ومواقفه المنحازة للطبقات المسحوقة خالدة في اذهان الناس.

 

قد يعجبك ايضا