ليلى علي
تُعَدُّ العلاقة بين إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية في بغداد واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً في الشرق الأوسط، إذ تتداخل فيها العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية والأمنية.
رغم التوترات التي طبعت هذه العلاقة عبر العقود، فإنها تحمل في طياتها فرصاً حقيقية لبناء نموذج شراكة مستدام، على غرار التجربة البريطانية – الإيرلندية، التي تحولت من صراع طويل إلى علاقة قائمة على التعاون والاحترام المتبادل. إن استلهام هذا النموذج قد يكون مفتاحاً لحل الخلافات العالقة بين بغداد وأربيل، عبر آليات تعاون واضحة ومستدامة تعزز الاستقرار والتنمية.
يشكل الاقتصاد حجر الأساس لأي علاقة تعاون ناجحة، حيث أثبتت التجربة بين بريطانيا وإيرلندا أن التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة ساهما في تخفيف التوترات السياسية. في العراق، يمكن اعتماد سياسة تكامل اقتصادي بين بغداد وأربيل تقوم على ربط الاقتصادين بدلاً من إبقائهما في حالة تنافس أو تعارض. لتحقيق ذلك، ينبغي العمل على عدة مستويات.
يجب أولاً تعزيز الاستثمارات المشتركة بين الحكومة الاتحادية والإقليم في قطاعات رئيسية مثل الطاقة، والبنية التحتية، والسياحة، والصناعة. يمكن إنشاء مشاريع استثمارية ضخمة بتمويل مشترك، بحيث تكون أرباحها موزعة بالتساوي وتُدار من قبل لجان مختصة تمثل الطرفين.
كما ينبغي تطوير شبكة نقل حديثة تربط الإقليم بباقي العراق، بما في ذلك تحديث الطرق السريعة، ومدّ خطوط سكك حديدية، وتحسين الموانئ والمطارات لتسهيل حركة التجارة والبضائع بين الجانبين. من شأن ذلك أن يعزز التكامل الاقتصادي ويجعل من كوردستان جزءاً حيوياً في الاقتصاد العراقي بدلاً من كونه كياناً منفصلاً يعتمد على صادرات النفط فقط.
يجب أيضاً وضع إطار قانوني واضح لتنظيم آلية الإنفاق الحكومي بين الطرفين. يمكن تحقيق ذلك عبر تشريع قانوني يحدد كيفية توزيع العائدات المالية، خاصة ما يتعلق بعوائد النفط والضرائب، بحيث يتم تقسيم الحصص وفق معايير شفافة تضمن العدالة للطرفين. يمكن أن يتضمن هذا الإطار إنشاء هيئة رقابية مستقلة تُشرف على تنفيذ الاتفاقات المالية وتراقب أي خروقات قد تؤدي إلى نشوء أزمات جديدة.
أما الأمن فهو يمثل أحد أهم الملفات التي يمكن أن تكون أرضية للتعاون الوثيق بين بغداد وأربيل، خصوصاً في ظل التحديات التي يواجهها العراق ككل، مثل الإرهاب والجريمة المنظمة والنزاعات في المناطق المتنازع عليها. لقد أثبت التعاون الأمني بين بريطانيا وإيرلندا أنه يمكن أن يكون عاملاً رئيسياً في بناء الثقة وتخفيف التوترات.
أحد أبرز الخطوات التي يمكن اتخاذها في هذا السياق هو إنشاء آلية دائمة للحوار الأمني بين القوات المسلحة العراقية وقوات البيشمركة الكوردية، بحيث يكون هناك تنسيق مستمر في القضايا الأمنية المشتركة. يمكن أن تأخذ هذه الآلية شكل لجنة أمنية مشتركة تُجري اجتماعات دورية لمناقشة الملفات الأمنية ووضع خطط استباقية لمواجهة التهديدات المحتملة.
إلى جانب ذلك، يجب وضع اتفاقيات أمنية تنظم وجود القوات في المناطق المتنازع عليها، بحيث يكون هناك توزيع عادل للصلاحيات الأمنية وفقاً لاحتياجات كل منطقة. يجب أن تحدد هذه الاتفاقيات طبيعة العمليات الأمنية، وآليات التدخل، وكيفية إدارة الأزمات عند وقوعها، وذلك لضمان عدم نشوب صراعات جديدة بين الطرفين.
كذلك، يمكن الاستفادة من الدعم الدولي لإنشاء برامج تدريبية مشتركة للقوات الأمنية من الجانبين، حيث تُركّز هذه البرامج على بناء قدرات القوات الأمنية وتعزيز العمل المشترك، مما يساعد في توحيد الجهود لحفظ الأمن والاستقرار على المدى الطويل.
على المستوى السياسي، يتطلب نجاح أي علاقة بين بغداد وأربيل وجود اعتراف متبادل بالحقوق والمسؤوليات لكل طرف، بحيث لا يُنظر إلى العلاقة بين الطرفين على أنها علاقة تبعية، بل كشراكة قائمة على المصالح المشتركة.
لتحقيق ذلك، من الضروري مراجعة بعض البنود الدستورية المتعلقة بصلاحيات إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية، بما يضمن وضوح حدود السلطة ومنع أي تداخل يؤدي إلى نشوب نزاعات جديدة. يمكن تشكيل لجنة مشتركة من ممثلين عن الطرفين لمراجعة هذه البنود واقتراح تعديلات تُعرض لاحقاً على البرلمان لإقرارها.
إلى جانب ذلك، يمكن اعتماد التحكيم كآلية رئيسية لحل النزاعات السياسية والقانونية بين بغداد وأربيل. يمكن إنشاء هيئة تحكيمية متخصصة تضم خبراء قانونيين من الطرفين، إضافة إلى خبراء دوليين مستقلين، تكون مهمتها الفصل في النزاعات وفق معايير قانونية محايدة تضمن عدم انحياز أي طرف على حساب الآخر.
كما ينبغي تعزيز اللامركزية الإدارية كوسيلة لحل الخلافات السياسية، حيث يمكن منح الإقليم صلاحيات أوسع في إدارة شؤونه الداخلية، مع الإبقاء على بعض الملفات السيادية مثل السياسة الخارجية والدفاع ضمن اختصاص الحكومة الاتحادية. هذا التوجه قد يسهم في تعزيز الاستقرار ويمنح الأقاليم مرونة أكبر في اتخاذ قراراتها بما يتماشى مع احتياجاتها المحلية.
تمثل الموارد الطبيعية، وخاصة النفط، أحد أكبر نقاط الخلاف بين بغداد وأربيل، حيث يدور الجدل حول كيفية تقاسم العائدات وآلية إدارة الإنتاج والتصدير. لحل هذه الأزمة، يجب وضع ستراتيجية شاملة تقوم على أسس الشفافية والتعاون بدلاً من المواجهة والتصعيد.
أحد الحلول الممكنة هو إنشاء صندوق سيادي مشترك يتم فيه تجميع جزء من عائدات النفط المستخرج من كوردستان وباقي العراق، بحيث يتم توزيع هذه العائدات وفق آلية واضحة تحدد الحصص بناءً على نسب متفق عليها مسبقاً. يمكن أن يكون لهذا الصندوق مجلس إدارة مشترك يمثل بغداد وأربيل، ويشرف عليه مراقبون مستقلون لضمان الشفافية في التوزيع.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي اعتماد آلية لمراقبة إنتاج وتصدير النفط، بحيث تكون هناك تقارير دورية تُرفع إلى البرلمان العراقي والجهات الرقابية المختصة، لضمان عدم وجود تلاعب أو فساد في إدارة الموارد النفطية.
كما يمكن التوصل إلى اتفاقيات جديدة تُحدد دور حكومة الإقليم في إدارة قطاع النفط، بحيث يتم احترام حقوق كوردستان في استثمار موارده، مع الالتزام بسياسات وطنية تضمن عدم الإضرار بمصلحة الدولة العراقية ككل.
إن بناء علاقة قوية بين بغداد وأربيل يتطلب تجاوز الحسابات الضيقة والعمل وفق منهجية واضحة تعتمد على الحوار والتعاون في المجالات الاقتصادية، الأمنية، السياسية، والقانونية. تجربة إيرلندا وبريطانيا تؤكد أن الصراعات التاريخية ليست قدراً محتوماً، بل يمكن تحويلها إلى نقطة انطلاق نحو تكامل وشراكة تعود بالنفع على الجميع. إذا تم تبني هذه الآليات بشكل جاد، فإن العراق سيكون أمام فرصة حقيقية لإرساء نموذج جديد من العلاقات الداخلية، قائم على الشراكة بدلاً من الصراع، مما يضمن مستقبلاً أكثر استقراراً وازدهاراً لجميع مكوناته.