النَّمِرُ لا يُغيِّرُ جلده

زكية حمو مائل

   سُئِلَ الكاتب الأيرلندي الشهير برنارد شو  يومًا عن سبب استشراء المجاعات في العالم. فأشار بيده اليمنى نحو رأسه الأصلع، ثم هبط بها نحو لحيته الكثيفة، وتمتم بوقار: العالم مثل شعر رأسي ولحيتي. غزارة في الإنتاج، وسوء في التوزيع. 
   تذكرتُ هذه القصة ومشاهد المجاعة في كثير من البلدان الإفريقية والآسيوية تلاحقنا بكل ما من شأنه أن يبعث كوامن الألم والحزن والأسى في نفوسنا.
   ومع فيض المشاعر هذه تجيش في عقولنا وأفئدتنا أسئلة جارحة: 
   كيف يحدث هذا الفقر الصارخ وسط الغنى والوفرة التي يتميّز بها عالم اليوم ؟
   كيف أصبح الإفريقي الذي كان يحقق اكتفاءًًا ذاتيًا من الغذاء باستخدام وسائل الزراعة البدائية، يعاني الآن الجوع الشديد في ظل وجود تقنيات زراعية عالية المستوى ؟
   ما سبب إخفاق العالم في الوصول إلى حلول عملية وجذرية لأزمة الغذاء ؟
   ويأتي الجواب كصفعة: ثمة خلل فظيع في هيكل الاقتصاد العالمي. إذ أن الدول المتخلفة أو النامية التي تمثـّل ثلاثة أرباع العالم يصل نصيبها من الإنتاج العالمي إلى 25% ، بينما ربع سكان العالم المتبقي يتمتعون بـ 75% من ثروة العالم.

   ومردّ هذا الخلل يرجع في جذوره إلى زمن استعمار الدول الأوربية لغالبية دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وسيادة النظرة الفوقية الاستعلائية من جانب الغرب تجاه هذه المستعمرات، واعتبارها ( كما أوضح عالم الاقتصاد البريطاني جون ستيورات ميل ) ليست حضارات أو دولًا على الإطلاق، بل هي مجرد مؤسسات زراعية هدفها الوحيد هو إمداد المجتمع الأكبر الذي تنتمي إليه بكل ما تقدر عليه..
   وبهذه الروح الأنانية الاستعلائية أحكمت الدول الأوربية سيطرتها على كل مناطق العالم، وبدأت تستنزف خيرات مستعمراتها، وتحشدها لخدمة آلتها الصناعية التي انطلقت تدور بأعلى فاعلية، مستغلة ظروف توافر المادة الخام بأبخس الأثمان، ووجود الأيدي العاملة الرخيصة.  
      
   ولما كانت الشعوب الفقيرة المستعمَرة، قد تعوّدت بحكم الحاجة، أن تزرع ما يدفع عنها الجوع، ويؤمن حاجاتها الغذائية، كان لا بد من تغيير أنظمتها الزراعية حتى تلبي احتياجات المصانع الغربية التي لا تشبع. 
   فمثلاً تم إجبار الفلاحين الفقراء على زراعة المحاصيل التي تحتاجها المصانع الغربية بدلاً من المحاصيل الزراعية التي يحتاجها أبناء المستعمرات. كذلك سُخِّرَت أفضل الأراضي الزراعية من أجل تحقيق هذا الغرض.

   ثم اكتملت حلقات المؤامرة والاستغلال بأن أغرق الأوربيون أسواق المستعمرات بأرخص المصنوعات الأوربية التي أزاحت الصناعات الشعبية المحلية، ودفعت الغالبية العظمى من الحرفيين المهرة إلى امتهان الزراعة، والعمل بأجور زهيدة في مزارع المستعمر، ويصبحوا، دون أن يشعروا أجراء من الدرجة العاشرة، في منظومة الصناعة الغربية.. 
   وبعد استقلال معظم المستعمرات تفتقت العبقرية الأنانية الغربية عن خلق الشركات المتعددة الجنسيات، الهادفة لتأدية الدور نفسه التي كانت تؤديه الدول الاستعمارية في نهب خيرات الشعوب، فأحالت هذه الشركات أراضي الدول المتخلفة إلى مزارع بالغة الضخامة، تمد الدول الغنية بما تحتاج إليه من المحاصيل الترفية ( أناناس، مانجو، أزهار.. إلخ )، وذلك على حساب المحاصيل الغذائية التي تعتمد عليها الشعوب الفقيرة ( فول، قمح، ذرة.. إلخ )..  
   وحتى الآن لا زلنا نرى الكثير من الدول الإفريقية تـُصدِّر إلى العالم الغربي محاصيل غذائية ترفية في ذروة استحكام أزمة المجاعة فيها. وهذا يعكس بجلاء حجم التبعية الاقتصادية للغرب، ومقدار تحكم الشركات المتعددة الجنسيات في مصائر الشعوب..
   من هنا يمكننا التأكيد الجازم أن العالم لن يتحرر من ظاهرة المجاعات ما لم يتحرر فعليًا من استغلال الشركات المتعددة الجنسيات. وهذا بدوره يستلزم أحد الأمرين: إما أن تعي الشعوب الفقيرة ذاتها وتدرك مقوماتها الثقافية والحضارية، وتأبى أن تبقى تحت رحمة رغيف خبز؛ تأمل أن يأتيها من أعالي البحار. أو أن يحتكم الغرب فعليًا إلى منظومة القيم الإنسانية التي يتغنى بها ليل نهار، والتي تردعه عن ممارسة الاستغلال والاستعباد لأخيه الإنسان. وهذا أمر بعيد المنال إن لم يكن ضربًا من ضروب الخيال والشطط. إذ لم يسبق لنا أن سمعنا يومًا، أن نمرًا غيَّر جلده..
    

قد يعجبك ايضا