حسين الفلوجي
عند التمعن في مقالة الكاتب توماس فريدمان إلى دونالد ترامب والتي جاءت في بداية ولايته الثانية، سيجد القارئ الحصيف انها تحمل أبعادًا سياسية ودبلوماسية مركبة، تستحق قراءة متأنية لفهم دوافعها وخلفياتها.
يظهر المقال وكأنه دعوة مباشرة للرئيس الأمريكي للعب دور قيادي حاسم في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط في لحظة وصفها الكاتب بأنها «القطار الأخير»، لكن مضمون الرسالة يتجاوز حدود النص المباشر لتعبر عن دلالات أعمق.
التركيز على الشرق الأوسط: ولماذا الآن؟ الرسالة تأتي في توقيت حساس للغاية. حيث يعاني الشرق الأوسط من أزمات معقدة ومتشابكة، تتراوح بين الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، الحرب في لبنان، ومرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، والانقسام حول نفوذ إيران الإقليمي. الامر الذي جعل الكاتب يضع تلك الأزمات في سياق تاريخي استثنائي، مشيرًا إلى أن هذه اللحظة تمثل فرصة نادرة لإحداث تغيير جذري.
لذلك، فأن التركيز على منطقة الشرق الأوسط يبدو مرتبط برؤية أوسع ترى أن استقرار هذه المنطقة يعد امرا محوريا سيؤثر إيجابيًا على الأمن القومي الأمريكي والعالم، الامر الذي يبرز أهمية دور ترامب كرئيس قادر على تحقيق اختراقات كبرى وفرض حلول ولو بالقوة.
تسلسل التحديات: رؤية استراتيجية للحلول
يسرد فريدمان التحديات الإقليمية في الشرق الأوسط وفق ترتيب مدروس يعكس رؤية استراتيجية واضحة، قد تحمل أصداء لمواقف مؤسسات صناعة القرار او ما يعرف بالدولة العميقة في واشنطن. حيث يبدأ بتناول ملف غزة، مصورًا المعاناة الإنسانية كأولوية تستدعي حلًا سياسيًا يفتح الباب أمام مصالحة فلسطينية-إسرائيلية تقوم على أساس حل الدولتين. ثم ينتقل بعدها إلى لبنان، مشددًا على ضرورة ترسيم الحدود ونزع سلاح حزب الله كشرط أساسي لاستقرار الدولة اللبنانية.
أما في سوريا، فيقترح دعم حكومة ائتلافية تمثل توازنًا بين مختلف القوى لضمان استقرار البلاد. وأخيرًا، يختتم بإيران، مؤكدًا أن تحجيم نفوذها الإقليمي هو مفتاح معالجة الأزمات الكبرى في المنطقة.
فمن سياق الرسالة يبدو ان هذا التسلسل ليس عشوائيًا، بل يهدف إلى إبراز أن تحقيق السلام يتطلب معالجة الأزمات بدءًا من القضايا الأكثر إلحاحًا وصولًا إلى الجذور العميقة للصراعات، بما يضمن استقرارًا شاملًا ومستدامًا.
أما جائزة نوبل أو الخراب
يطرح فريدمان صيغة «جائزة نوبل أو الخراب» كأداة تجمع بين الإغراء والتحذير، مستهدفًا دفع ترامب إلى اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الشرق الأوسط.
فمن جهة، يقدم له فرصة تحقيق إنجاز تاريخي قد يخلده كصانع للسلام في المنطقة، ومن جهة أخرى، يحذره من عواقب الفشل التي قد تتجاوز حدود الشرق الأوسط لتؤثر على الأمن القومي الأمريكي ومكانة الولايات المتحدة عالميًا.
هذه الصياغة المزدوجة تسعى إلى تحميل ترامب مسؤولية اللحظة الحاسمة، محولة الفرصة إلى اختبار لقوة قراره السياسي وحزمه الاستراتيجي. يبقى السؤال هل الرسالة عفوية أم مدروسة؟
يبقى السؤال المهم، هل هذه الرسالة كتبت بصورة عفوية ام انها جاءت لتعبر عن رؤية استراتيجية أعمق، فسياق الرسالة تؤكد انها مدروسة بعناية وليست عفوية. فريدمان، بخبرته الصحفية والسياسية وعلاقاته، يدرك تمامًا كيف يمكن لمقالة كهذه أن تتحول إلى رسالة غير مباشرة لقادة الشرق الأوسط. الرسالة تخاطب ترامب، لكنها تحمل إشارات واضحة إلى الدول المنطقة المعنية بالأزمات، مثل إسرائيل، السعودية، وإيران، وتحثها على مراجعة مواقفها وتبني نهج مرن لحلول شاملة.
دور «الدولة العميقة» وتصوير ترامب كقائد حاسم
فريدمان يلمح إلى أن ترامب، بشخصيته غير التقليدية وقدرته على اتخاذ قرارات حاسمة، قد يكون الشخص المناسب والأداة المثالية لفرض حلول قسرية، على عكس سياسات بايدن التي تعتمد على الدبلوماسية التقليدية. لذلك يرى الكاتب أن «الدولة العميقة» التي تدير المصالح الاستراتيجية الأمريكية قد رأت في ترامب شخصية قادرة على تجاوز الحسابات المعقدة وفرض معادلات جديدة في المنطقة، ولو بالقوة أو الضغوط القصوى.
ختاما: مقالة فريدمان ليست مجرد نص موجه لترامب، بل هي محاولة لرسم مسار جديد للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، مستغلة شخصية ترامب كرئيس يميل للقرارات الجريئة. الرسالة تهدف إلى دفع جميع الأطراف، من واشنطن إلى تل أبيب والرياض وطهران، نحو إعادة التفكير في مواقفها، تحت تهديد الوقت الضيق واحتمال «الخراب» إذا فشل القطار الأخير في الانطلاق.