مئوية جمهورية تركيا وحلم تحديث الدولة السلطانية                                              

 

 

د. توفيق رفيق التونجي

 

الجزء الثاني

 

الجيل الجديد و اب الأتراك (أتاتورك)

هذا السرد التاريخي مهم قبل الوصول الى العصر الحديث وبالتحديد الى عشية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية بانتصار الحلفاء في الحرب وتقسيم جميع الولايات التي كانت تابعة للدولة فيما بينهم وتشكيل دول جديدة عليها بحكومات تابعة لها وما يسمى سياسة الانتداب او الاستعمار. رغم ان الدولة العثمانية شهدت خاصة في سنواتها الأخيرة العديد من المشاريع الإصلاحية وتغيرات جوهرية في (المشروطية) وإعلان الدستور  لم يتمكن في النهاية الوقوف أمام الرياح القومية القادمة من الغرب ابتداء من ايطاليا الفتاة وبذلك اكل السوس بنيان الدولة وبدا كل قوم يفكر في الاستقلال والتخلص من الهيمنة التركية في جميع الولايات وقد يكون المغرب ومصر مستثنين من تلك القاعدة. اعترفت تركيا الحديثة بدولة إسرائيل بعد سنة على تأسيسها أي عام 1949. وانظم الى حلف ناتو عام 1952.

 

 

 

لم ينتهي الصراع في تركيا الحديثة ولحد يومنا هذا بين المجديين وهؤلاء ممن يحنون الى الماضي الاستعماري والامبريالي للدولة العثمانية. هؤلاء ينقسمون الى جبهتين يتحدون أحيانا ويتراجعون لينفصلوا  احيانا اخرى. القوى القومية المتمثلة في حزب الحركة القومية والذي أسسها وقادها الرائد القبرصي (الب ارسان توركيش) والذي يعتبر الماضي الإمبراطوري أساسا فكريا ويدعي تفوق العنصر التركي على الأقل من الناحية العسكرية على الأمم الأخرى ولا يعترف بوجود قوميات اخرى غير تركية في الدولة وان وجد فهم (أتراك جبليون ) وان”حدود تركيا تنتهي أين يتواجد اخر تركي”.

 

اما الخندق الأخروالمحافظ الإسلامي التوجه ورغم كونه أيضا من منادي الإمبراطورية العثمانية ولكن على أساس ديني وقومي أي إعادة أمجاد الخلافة وما يسمى “الاخوانية” وهذا ما يدفعهم للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

لا تزال هذه الأفكار في صراع دائم مع الفكر العلماني الأتاتوركي او ما يسمى (الكمالية العلمانية) ويحاولون جاهدين إعادة عقارب الساعة الى الوراء ولكنهم في نفس الوقت مستعدين للتعاون مع أي جهة للبقاء على سدة الحكم فتراهم في ائتلاف مع الحركة القومية ورغم معاداتهم لأفكار أتاتورك العلمانية ولكنهم برغماتيين يستخدمون تاريخ أتاتورك في دعايتهم الانتخابية وصولا كما ذكرت وبأي ثمن للسيطرة على عواطف الجماهير للفوز في الانتخابات. بذلك يشبهون تماما الطبق الشهير في تركيا والمسماة (تورلي) أي مشكل. وتتمثل اليوم تلك الأفكار (حزب العدالة والتنمية)  الذي أسسه ويترأسه رئيس الجمهورية الحالي السيد رجب طيب اردوغان. الجدير بالذكر ان جذور هذا الحزب قديمة جدا في تركيا وكانت دوما تعادي السياسة العلمانية التي انتهجها مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك وذلك بسن قوانين مشابهة لتلك الغربية “قوانين روما” وفصل الدين عن السياسة واستبدال الأبجدية بتلك ألاتينية وإلغاء العمامة والملابس العثمانية.

 

 

تاريخ الحزب يعود الى  “حزب السلامة الوطني” الذي نشط بين اعوام 1972 الى 1980،  أسسه السيد سليمان عارف امره  ومن ثم تغير اسمه الى  حزب الرفاه 1983 الى  1998 ومن ثم الى حزب الفضيلة  1997 الى  2001 ، الذي كان يتزعمها عراب الحزب المرحوم (السيد نجم الدين اربكان ).  ومن ثم اسس السيد رجب طيب اردوغان حزب العدالة والتنمية عام 2001 كحزب يتأرجح بين اليمين وأقصى اليمين، قومية، إسلامية و محافظة. تلك الأحزاب الدينية كانت تغلق من قبل المحكمة الدستورية حسب المادة 68 و 69 أي انها تعارض مبدا علمانية الدولة. كان الحزب دوما يتفاخر في السبعينيات بوجود اكثر من مليون عضو منتسب فيه. يجب عدم نسيان ان الاتجاه الطائفي في الدولة العثمانية ومن ثم في العهد الجمهوري في تركيا وعبر التاريخ كان  سنيا ومن إتباع الإمام ابو حنيفة النعمان  رضي الله عنه ( المذهب الحنفي) لهذا نرى لهم أصداء في معظم الأحزاب السياسية ذو التوجهات الفكرية الإسلامية السنية في معظم الدول الإسلامية خاصة الإخوان المسلمون، وحضورا نشطا قبل الثورة الإسلامية في ايران الذي ادى الى ظهور الطائفة الشيعية كسلطة حاكمة في ايران ما زاد زخم نشاط هذه الطائفة في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن وفي بعض مدن المملكة العربية السعودية.

 

كما ان المصالح الدولية والمحلية في تغيرات مستمرة. ادى الى تغيرات في السياسة العامة في الجمهورية التركية وفي معظم أحزابها. لذا نرى توجها عاما وبقوة وبشراسة وبتطرف أحيانا في معاداة الغرب وأسلوب الحياة فيه وخاصة باتجاه الاتحاد الأوربي مع التوجه بخطوات بطيئة نحو روسيا من كافة الجوانب واستخدام مسالة اللاجئين  كسلاح و رأس الحربة في سياسته الأوربية  واستخدامهم كأداة للضغط والابتزاز كما يتعامل به كأسلوب تجار سوق (قبالي جارشي) الشهير وسط استانبول.

 

طابع جمهوري بالأبجدية القديمة

 

أما حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ولا يزال ينادي بأفكار المؤسسة مع التوجه الى يسار الوسط. حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه باني دولة تركيا الحديثة مصطفى كمال المكنى ب أتاتورك. أسس أتاتورك الحزب في 9 سبتمبر 1923  أغلق جميع الأحزاب  بعد انقلاب العسكري في أيلول  1980 الذي قام به الجنرال (كنعان افرن) لكنه بقى  الحزب محافظا ولحد يومنا هذا باسمه وبأفكاره منذ تأسيسه. أعيد تأسيس الحزب من جديد بعد إعادة النظام الديمقراطي الى تركيا. تاريخيا كان هذا الحزب حاكما في العديد من الانتخابات النيابية التركية وانتهى قوته السياسية في السبعينات ايام رئيس الوزراء المرحوم ( بولند اجاويد) الذي قام بغزو قبرص واحتلال الجزء التركي من الجزيرة  وتأسيس دولة قبرص الشمالية اثر الاضطرابات السياسية التي أدت الى سيطرة الجيش في هذه الجزيرة . ومع خفوت تأثير الحزب حاول رئيس الحزب الاقتراب أكثر من الحركة القومية التي كان يقودها الرائد القبرصي (  الب اصلان توركيش) وذو التوجهات السياسية الفاشية.

 

اليوم ماذا نرى من من أسس الدولة التي أسسها أتاتورك اليوم غير صوره المنتشرة في كل أنحاء الجمهورية وتماثيله الذي يزين بها الدوائر الرسمية والمؤسسات والمدارس والسفارات.

 

شعارات الأحزاب التركية الحالية

 

تركيا أصبحت دولة حديثة في الشرق الأوسط تتلاطم فيها الأفكار الداعية الى اسلمة المجتمع مع أفكار ليبرالية تدعوا الى تحديث المجتمع على الطريقة الغربية واخرى قومية تتواجد ضمن جميع الأحزاب وتدعوا الى الصفاء العرقي التركي لجميع شعوب دولة تركيا وبروح إعادة أمجاد الإمبراطورية التركية في العالم وما يسمى العالم الأزرق (تورك اوز). مما يؤدي الى تقسيم المجتمع الى قوميات كل يطالب بحقوقه الثقافية وحتى السياسية منها. هذا التوتر العرقي القومي يعتبر من اهم إخطار المحدقة بالدولة حتى في المستقبل. بينما يتجه العالم بأكمله الى قرية كونية وتلغي الحدود وتقرب الثقافات وحتى الملبس والمشرب.

 

 

 

 

تبقى المسالة الكوردية هاجسا مخيفا في المجتمع بينما لم يقدم أي جهة سياسية برنامجا واضحا لهذه المسالة الوطنية بين أفكار تدعوا الى تقسيم البلاد واخرى تريد الاحتفاظ بوحدة البلاد ولكنها تحمل أفكارا قومية منعزلة. حتى الأفكار الإسلامية الداعية الى الوحدة في الدين تتوجه الى القوى القومية وتحتاج الى تأييدها على الأقل في الحفاظ على السلطة وكما نعرف انها هم الجميع.

الحالة الاقتصادية كأمواج البحر تتلاطم في سياسات اقتصادية تعتمد على اقتصاديات السوق الحر وخطط استثمارية تتوزع في العديد من الدول العربية والإسلامية. الاقتصاد الحر من اهم ركائز الاقتصاد التركي والصناعات التحويلية والتجميع للسيارات و المعدات والآلات والتقليد وحتى الصناعات الثقيلة تعتمد على الاستثمارات الغربية وخاصة الأمريكية.

 

الجيش يعتبر ثاني اكبر جيش لحلف الناتو مجهز بالكامل بالأسلحة الغربية ويتم تدريب وتعليم أفراده عن طريق العلوم العسكرية الغربية ولكن تنظيماتها وتدريبها تبقى تحت تأثير نظام التجنيد من العهد العثماني. اما القوة البحرية والأسطول التركي فلا يزال خارج حدود الطموح الذي كان في اوج ازدهاره ايام القبطان البحري خير الدين باشا بارباروس الشهير. رغم ان الحالة الأمنية مستقرة في البلاد منذ حوادث ما قبل الانقلاب العسكري في عام 1980 ولكن الجهود الأمنية توجهت الى خارج حدود تركيا وخاصة الى دول الجوار في مكافحة الإرهاب ما ادى الى مشاكل كثيرة لمواطني العراق وسوريا ودول اخرى. الإرهاب آفة عالمية يتم فقط قبره عن طريق ردم منابع و مستنقعات تواجدها من ناحية  ومن ناحية اخرى تحليل أسبابها ومسبباتها للوقاية منها. اما القضاء ورغم استقلاليته دستوريا لكنه يبقى تحت تأثير الأفكار الحزبية الحاكمة. خاصة الفترات التي كانت فيها المحاكم العسكرية العرفية وطبعا ايام تقيد الحريات العامة خاصة للمثقفين والصحفيين وما يسمى بسجناء الرأي.  جرى تغير كبير في البنى التحتية للدولة وخاصة في المدن الكبيرة الثلاث. اما مدن المحافظات التي تربو على الثمانين فنرى تغيرات جوهرية وخاصة في مدن شرق وجنوب شرق البلاد التي أهملت خلال السنوات الطويلة الماضية وهي اليوم في تطور عمراني واضح. العمران وبصورة عامة جابه مصاعب كبيرة من خلال الخسائر الكبيرة جراء الزلازل في عموم المنطقة ما يدل على وجود فساد كبير مستفحل في البنية الأساسية للمقاولين وشركات البناء.

قد يعجبك ايضا