د. ابراهيم احمد سمو
مضت سنوات طويلة وهو لا يدرك أنه كان مسجونًا، لا جدران تحيط به، ولا قيود ظاهرة على يديه، لكن السجن كان أعمق… كان في داخله. مرّ العمر، وانقضت فصوله كأنها سُرقت منه، دون أن يشعر بطعم الحرية أو يعرف لها اسمًا.
وحين جاء اليوم الذي عرف فيه نفسه حقًا، وأدرك أنه لم يكن حرًا قط، انفجر في داخله نور جديد. عرف حينها معنى الانعتاق، لا من سجنٍ مادي، بل من القيود الخفية التي صنعها الخوف، والعار، والماضي الثقيل. وقف على أعتاب حياة جديدة، كأن الزمان عاد به إلى الشباب، لا كآبة، ولا مآسي، ولا خجل من النسب، ولا خوف من الصدمات المتكررة.
في تلك اللحظة، لم يجد نفسه وحيدًا، بل وسط من يؤنسونه، يساندونه، ويكبرون معه. صار درعًا وسندًا، ولم يعد هناك خوف يُذكَر، ولا عذر يُلتَمَس، فالمبدأ الجديد كان واضحًا: “ما فات مات، لكنه لا يُعاد”، ولا مستقبل يُبنى بالمصافحات الكاذبة، ولا بالعزف على أوتار ألوانٍ قديمة نشأ عليها.
أسدل الستار على مسرحية حياته الأولى، بكل فصولها الموجعة ومشاهدها المتعبة. كانت الأعوام الماضية قد أرهقته، استنزفته حتى لم يعد يطيق إعادة المشاهدة. أمسك كتاب تلك المسرحية ومزّقه دون ندم، ثم ألقاه في النار، ليحترق كما احترق قلبه في ليالٍ مضت.
لكنه لم يقف هناك، لم يترك نفسه على الأطلال. عاد وأمسك بالقلم، وكتب مسرحية جديدة… ولادة جديدة. هذه المرة، كان عنوانها الأمل، وبطلتها الحياة النقية، بلا أقنعة، بلا كذب، بلا نفاق، ولا خوف ولا قلق. عالم من صفاء، لا حسد فيه، ولا حقد، ولا رياء، ولا حتى حب مشروط… فقط الخير، وكل الخير، ما ينفع الإنسان في دنياه ويمنحه بعض السلام.
اتخذ من ذلك عنوانًا لحياته المقبلة، شعارا لا قصيدة، ومبدأ لا مجرد حلم. ومع قراره بالتحول، استقبل الجميع ذلك النبأ بالفرح. انطلقت التهاني، لا من ألسنة منافقة، بل من قلوب صادقة. جيرانه فرحوا، وزملاؤه في العمل رحّبوا بعودته من أعماق التيه. ظهرت التهاني على الشاشات، تُذاع كلماتهم عن رجل بنى مجده بيديه، بعد أن كسر كل القيود، وجاهد حتى صعد إلى القمة التي كان يصبو إليها منذ زمن.
لكنّه لم يكن بحاجة إلى تصفيق أو تكريم. لم يرد تحية من الماضي، ذاك الماضي الذي بات مثل طيفٍ باهت، يمر في الذاكرة دون أن يترك أثرًا. لم يعد يرغب في أن يُذكر بشيء من ذلك الزمن الغابر، فكل ما يريده هو أن يحيا حياة لا قيد فيها، ولا شبح قديم يطارده.
هو اليوم إنسان جديد، لا يشبه من كان بالأمس، لا يلتفت إلى الوراء، ولا يندم على ما ضاع. لا يريد أن يعود لمسرحية لعب فيها دور الضحية أو السجين. لقد تحرّر، وكتب فصله الأول بنفسه، هذه المرة عن وعي، بإرادة لا تهتز، وبقلب خالٍ من كل ما يعكر صفوه.
ربما كان الماضي قاسيًا، والمسرحية الأولى موجعة، لكن الأهم أنه قرر ألا يُعاد عرضها أبدًا. لقد مزّق النص وأحرقه، ليبدأ حكاية تستحق أن تُروى، لا عن الألم، بل عن الشفاء… عن الانبعاث من الرماد، وعن الولادة من جديد