صباح بشير
العنوان “منزل الذّكريات”.. مفتاح لعمق النّصّ:
يعود به الزّمن الى الوراء، وتمرّ المشاهد في ذهنه وكأنّها شريط سينمائيّ، يتذكّر كوثر صديقه الطّفولة، ويحنّ إلى أيّام الشّباب وزواجه من سناء، يستعيد ذكرياته مع أسمهان فيشعر بالشّفقة عليها، فهي مسلوبة الإرادة وضحيّة للظّلم والقهر، تعيش مع أخيها الطّاغية الّذي استبدّ بهما وسلب بيته، فيقول ملتاعا (ص172): “سلّمته مفتاح البيت وأنا أشعر أنّني أسلّم تاريخي وتاريخ سناء، وذكرياتنا الّتي كانت لنا في هذا البيت”.
بذلك يتجلّى عنوان الرّواية “منزل الذّكريات”؛ كمرآه تعكس بريق أيّام سعيدة مضت، ونبع حنين لا ينضب، يلوذ به قلب محمّد الحزين.
هذا العنوان، هو مفتاح لفهم عمق النّصّ وتشابكاته النّفسيّة والاجتماعيّة، إذ يرمز المنزل إلى الملاذ الآمن والذّكريات واكتشاف الذّات، فهو المكان الّذي يلجأ إليه البطل هربا من صخب الحاضر؛ ليعيش في عالم الأحلام.
أمّا الذّكريات فهي تداعيات وارهاصات تتحكّم في حاضر البطل، تربطه بماضيه وتمنحه الشّعور بالاستمراريّة والانتماء، لكنّها تبقيه أسيرا للماضي بشوق وعاطفة تسود السّطور، وهنا يكمن التّساؤل عن معنى الحياة والوجود، فهل الذّكريات نعمه أم نقمه؟
هكذا.. يحمل العنوان في طيّاته دلالات عميقه ومتشعبة، فهو يرمز إلى المكان والزّمان والشّخصيّة والعاطفة.
مرايا الكلمات والإسقاط السّياسيّ في النّصّ:
يمارس الكاتب فنّا دقيقا هو فنّ الإسقاط؛ وذلك لتقديم صورة إبداعيّة تتجاوز الظّاهر، وتعكس حقيقة ما وراءها، فيسقط الواقع على شخصيّات العمل، الّذين يمثّلون امتدادا للواقع السّياسيّ الّذي نعيشه بسلوكيّاتهم وأفكارهم وحواراتهم، ذات المعاني العميقة، يقدّم إشارات رمزيّة تدعونا إلى التّوقّف عندها، فالشّخصيّة الشّريرة “جميحان” تجسّد إفرازات السّلطة والأنظمة المستبدّة والاحتلال.
أمّا “أسمهان” فتمثّل الشّعوب الضّعيفة المستسلمة، ورغم الهوان الّذي تعيشه إلّا أنّها تحترم جلّادها وتخلص له.
يتابع محمّد في نقد حالنا وأحوالنا، محدّثا نفسه، متأمّلا الواقع (ص155): “هل سيهبّ رهوان للدّفاع وهو الّذي لن يجرؤ على الوقوف في وجه التيّار الكاسح للمتزمّتين؟ هل يستطيع ابن العائلة “قيس” الّذي لم ينجز ما بقي من فصول روايته حتّى الآن أن يتدخّل ولو من خلال الكتابة؛ لوضع النّقاط على الحروف ولنقد حاله الانحطاط الّتي وصلنا إليها، حيث لا احترام للرّأيّ والرّأيّ الآخر، وحيث هيمنة الصّوت والرّأيّ الواحد وتفشّي الجهل في كلّ مفاصل المجتمع؟”
يتابع: “هل ينفعك عجوز كواباتا وعجوز ماركيز، وهما الحرّان الطّليقان في بلديهما؟”
هذا الحوار الدّاخليّ يشرح الكثير، فالكاتب بذكاء يستخدم أسئلة مفتوحة، تحمل إشارات واضحة إلى التّحدّيات الجسيمة الّتي نواجهها، إذ يمثّل قيس الجيل الشّاب الّذي يحلم بالتّغيير ويسعى لاستخدام الأدوات المتاحة؛ كالإعلام والثّقافة لنقل صوته إلى العالم، لكنّه لا يفعل، لا يكتب ولا يكمل روايته!
هذا الشّعور بالعجز عن إتمام مهمّته، ينبع من الأوضاع الّتي نعيشها، وذلك ما يشير إلى دور المثقّفين، فقيس هو الكاتب الّذي يمتلك القدرة على التّأثير من خلال كتاباته، لكنّه يتردّد في استخدام هذه القدرة، ما يعكس حاله التّيه الّتي يعيشها الكثير من مثقّفينا، حيث يتصارعون بين رغبتهم في التّغيير وبين خوفهم من العواقب، في واقع يغيب فيه احترام الآراء وتكبّل حريّه التّعبير، مما يضعف نشاط المثقّف ويعرقل إنتاجه الفكريّ.
أمّا “التيّار الكاسح للمتزمّتين” فيجسّد تلك الفئة المتشدّدة، الّتي تتّسم بالتّعصب والرّفض القاطع لأيّ رأي مخالف لها، ما يؤدّي إلى زيادة الإنقسام في المجتمع، ويؤثّر سلبا على النّسيج الإجتماعيّ والثّقافيّ فيه.
شخصيّة “رهوان” أيضا، هي استعارة للقيادات المتردّدة في اتّخاذ القرارات الحاسمة، أمّا عجوزا “كواباتا” و”ماركيز” فهما نموذجان للدّول الصّديقة الّتي لا تقدّم المساعدة، بسبب الاختلاف الثّقافيّ، أو اختلاف الظّروف والأوضاع، أو المصالح والتّوجّهات أو لأيّ سبب آخر. وعن اسم “جميحان” فيشير إلى شخص سريع الحركة والفعل، هو اسم عربيّ يعود أصله إلى الجذر اللّغويّ “جمح” الّذي يدلّ على الحركة السّريعة والاندفاع، وأحيانا القوّة والعنف، أمّا “حان” فتدلّ على الوقت المناسب أو الحاضر، ولشخصيّة “جميحان” علاقة وثيقة بين اسمه وصفاته الّتي تتوافق مع سلوكه العنيف، وقدرته على التّأثير في الآخرين وإخافتهم، مستغلّا بطشه لتحقيق أهدافه، متّخذا من الدّين ستارا لتبرير أفعاله وتغطية زلّاته.
من هنا فاختيار الكاتب لاسم “جميحان” لم يكن مصادفة، وربّما يكون نوعا من السّخرية اللّغويّة، فقد وظّفت في النّصّ بعض المواقف والكلمات السّاخرة، الّتي تتراوح بين النّقد اللّاذع وبين الفكاهة الّتي تخفّف من وطأة الواقع، وتسمح بتقبّله.
إنّها سخرية تحمل في طيّاتها وعيا عميقا، تشدّ انتباه المتلقّي وتخاطب العقل والوجدان، تجعل الأفكار أكثر تأثيرا، وتكشف عن مكامن الخلل، وتحرّك الوعي إلى إعادة النّظر في المسلّمات والبديهيّات.
بين ثنايا السّطور، تأمّلات وهمسات الكاتب:
في ثنايا السّطور، ينثر الكاتب حِكَما استقاها من تجاربه، ينتقد التّفكير الذّكوريّ الّذي يقيّد المرأة، فمثلا يكتب عن أسمهان (ص90): “لم يسمح لها بمواصلة تعلّمها في المدرسة، أخرجها منها وألزمها البقاء في البيت، كما لو أنّ فضيحة ستحلّ بالعائلة”. ويقول عن فريال (ص31): “تأسّيت على الجمال الّذي لا يسنده ثقافة رصينة وارفة”.
نتذكّر هنا ما ورد من شعر بشر الفزاريّ حيث يقول: لا خير في حسن الجسوم وطولها، إذا لم يزن حسن الجسوم عقول.
كما يشير إلى غياب ثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربيّة، ويتساءل على لسان محمّد عن مصير كتبه بعد رحيله؛ وكأنّها جزء من روحه سيفارقها رغما عنه، يقول (ص83): “هي كتب في بعضها وصف عميق لما نحن فيه من تخلّف وانحطاط، وإشارات صحيحة إلى طريق الخروج مما نحن فيه من تخبّط وبؤس، وفوضى وجهل وخراب، لكن.. قلّة هم الَّذين يقرأون الكتب، وقلّة هم الَّذين يدركون إلى أين نحن سائرون”.
وبعد.. تترك هذه الرّواية أثرا عميقا في نفوس القرّاء، فهي رواية توسّع المدارك وتثير العواطف وتشعل الحواسّ، تحمل رسالة هامّة عن الحياة والذّاكرة الّتي توجهّنا عبر متاهات الزّمن، فالذّاكرة هي الكنز الّذي نحمله معنا أينما ذهبنا، وهي شاهد على التّاريخ الشّخصيّ والجماعيّ، وأداة للبقاء والتحدّي في وجه النّسيان والمحو، وهي أيضا الجرح الّذي لا يندمل، والجسر الّذي نبني عليه مستقبلنا.