ابو العتاهية الشاعر المزاجي  

 

 د . صباح ايليا القس

 

عند الحديث عن الشاعر العباسي ابو العتاهية لا بد من الاقرار بانه يمثل مرحلة مهمة من مراحل او عصور الشعرية العربية ولا نستطيع ان نقول انه الافضل بين جيله ولكنه يعد من الفضلاء ..

يقال ان الذكي هو وليد البيئة والثقافة التي تربى عليها , اما العباقرة فهم من يخترقون الزمن الى وحي المستقبل وهذا الامر لا يكون من فراغ بل من اجتماع عوامل متنوعة تتفاعل لانتاج عبقري وهذا يترك للاجيال اللاحقة نتاجات تخترق المعاصرة لاسيما في حقول الابداع ومنها الشعر .

وحسبنا مما تقدم ان نتصدى لهذا الشاعر المزاجي مستفيدين من دراسة علوم عصره وسيرة حياته التي تشير الى انه لم يكن اهله من كبار القوم بل من الطبقات المسحوقة لذلك فانه إضطر اضطرارا الى ممارسة العمل اليدوي متخصصا باعمال الفخار التي كانت رائجة في صناعة حاويات الماء والاقداح .

عن طريق هذه المهنة البسيطة لا بد انه تعرف على مجموعة من الاصحاب من المنسحقين ايضا لا سيما الذين لا يعرفون للفضائل معنى حيث سايرهم وانصرف معهم الى اللهو والمجون ذلك الذي يناسب طبعه الحاد والمضطرب وهو بين تيارين الاول هو ما تدفعه اليه موهبته وطاقته الشعرية والآخر هو مجاراة مثل هؤلاء الاصحاب في المجون والشذوذ .

تاريخه يقول انه عاش صراعا بين ما ينشده جسده في البحث عن اللذائذ وبين ما يبعثه فيه روح الايمان متقربا الى الله زاهدا عابدا حتى انه يتصرف كالرهبان في لبس المسوح وهجر الصحب واللذات التي لا يلبث ان يعود اليها حتى حيَّر هذا التصرف اهل عصره . لذلك فالدارسون لشخصيته الشعرية تعتريهم الغرابة في سرعة التقلب ..

كان ابو العتاهية سوداوي الطبع بخيلا جدا حتى انه قلما يخرج من البيت بسبب خوفه وبخله وعن بخله قيل انه اعجوبة الزمن ونادرة العصر في البخل والتقتير اذ عاتبه صديق له على هذا الطبع البخيل وقال له : ان الناس من شدة بخلك لا تأكل اللحم وانك لا تشتريه الا في العيدين ففكر حينا وقال : والله لقد ظلموني واني قد اشتريت لحما وتوابل في عاشوراء .

ان مرحلة الفقر التي عاشها لم يستطع ان يتخلص منها حتى بعد ان صار المال بين يديه ولم يسعفه مزاجه المنفتح احيانا على التخلص من تاريخه البائس وظل يعتقد ان كثرة المال من علامات الوجاهة والرجولة حتى قال في هذا :

ما الناس إلا للكثير المال         او ما دام في سلطانه

ان انعزاله وعدم قدرته على التكيف مع المجتمع بل ونظرته السوداوية المرتبطة بتاريخ الالم منعته من الانفتاح على الآخرين الذين كان يسيء الظن بهم اذ بقي خيال الفقر يلاحقه فضلا عن الشك في الناس المحيطين والحذر من عاديات الزمن يقول :

أنت ما استغنيت عن       صاحبكَ الدهر أخوه

فاذا احتجت اليــــــه       ساعة مجّكَ فـــــــوه

هذا الكلام هو الذي اقتنع به مزاجه المتقلب بحيث لم يستطع ان يتواءم مع صديق حتى اخذ يضادد الناس ويناقضهم ليس من همِّ له سوى جمع المال والاجتهاد في تحصيله وحمايته الى درجة البخل والتقتير والتضييق على النفس حتى انه اعتزل الناس والتزم التوحد فقال :

برمتُ بالناس واخلاقهم         وصرت أستأنس بالوحدة

قد يعجبك ايضا