الناقدة ناهد صلاح : العراق شهد السينما إنتاجآ ومشاهدة بالعالم العربي منذ بواكيرها

التآخي : وكالات 

لامست أناملها الكتابة منذ بواكير نشأتها الأولى ، لتجد نفسها مزروعة ما بين الكتب والجرائد والمجلات تلك التي كان لا يخلو منزلها من رائحة الورق وعبير أحبارها، ناقدة سينمائية وكاتبة وصحفية استطاعت أن تمسك أكثر من تفاحة بيد واحدة بكل جدارة ومهارة، وبسبب حبها للكتابة انطلقت بأفق خيالها نحو عوالم إبداعية شتى فشقت طريقها لتصطاد الحروف بسنارة قلمها الذي لم ينجرف نحو السطحية أو المجاملة قط، كان تواجدها في بغداد لحضور مهرجان بغداد السينمائي حلمها المنتظر الذي طال انتظاره فتحقق فكانت لها مشاركة مميزة في المهرجان عبر فيلمها (شارع شامبليون) للمخرجة أسماء إبراهيم الذي أثار إعجاب الحاضرين.

الناقدة الفنية المصرية “ناهد صلاح” كانت في ضيافة (وكالة الأنباء العراقية) (واع) أثناء تواجدها في بغداد فكان معها هذا الحوار..

 

* في البدء النقد حرفة أم موهبة أم علم؟

 – ما هذا السؤال الفخ…؟! نعم إنه فخ كبير، لأنه ملتبس ومُربك، قد يؤدي إلى نوع من الحيرة وربما يصنع بعض التشوش، إذا لم نتأمله برَوِّيَة، إذا لم نحاول استبصار مفهوم النقد ومعاييره وأحكامه ومراحله من التفسير الذي يُوضح المضمون والمعنى، إلى التحليل الذي يشرح أسلوب العمل في تقديمه للفكرة، ثم التقويم أو التقييم الذي يقدم حكما على العمل، وفقاً لمناهج وأدوات مختلفة، السؤال كما مفهوم النقد يطرح إشكالية كبيرة تواجه النقاد والحركة النقدية، ويجعلنا ندرك أن النقد ليس تشخيصا للعيوب فقط، بل يستنطق العمل الفني ويفككه قبل أن يحكم عليه، وهذه عملية ليست هينة وإنما تحتاج إلى جُهد ذهنيٌّ وتواصل نفسي من الناقد مع العمل الفني بكل مستوياته الجمالية شكلاً ومضموناً من دون إهمال السياق الاجتماعي والمعطيات الذاتية وعلاقتها بالمحيط الخارجي وظروف إنتاج العمل، فهذه النقطة بالذات تصل بنا إلى أن المبدع حر في إبداعه، لكن الحرية ليست مطلقة، وأيضا يكون الناقد ملتزماً بقواعد يطبقها.

وأضافت: الشائع أن الكتابة موهبة، إن هذا الكلام صحيح لكنه منقوص إذا لم يمتلك الناقد درجات من المثابرة والدأب والتدريب بجوار موهبته في الكتابة والتأمل والتقاط التفاصيل. يتفق جميع المفكرين وفلاسفة الفن وحتى علماء النفس على أن الموهبة حالة فطرية إنسانية، لكنها تتطوَّر بفعل التربية والتعليم والظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بها. وأنا من واقع تجربتي وقناعتي أؤمن بذلك الرأي، فالتراكم التاريخي الفني والمعرفي والثقافي الذي يوفره المجتمع يدعم التطوُّر ويُنمي الموهبة.

  وتابعت: من هذا المنظور أرى أن النقد حرفة وموهبة وعلم، إنه الهامش الذي يحتويهم جميعا. النقد اختيار فيه قدر من الذاتي والشخصي، كمية العناء في مهنة النقد لا يدركها إلا من يمارسها، كذلك فإن المتعة في مُزَاوَلَة النقد لا يحظى بها بطبيعة الحال إلا من يتعاطى معها، والنقد عموما صنعة تعتبر من المهن القليلة التي تعتمد على المزاج. ثمة محترفون وصلوا إلى درجة عالية من الاحتراف حتى أنهم يكتبون في أي مكان، سأضرب لك مثلًا، كاتب وناقد مهم مثل رجاء النقاش كان يكتب مقاله وسط صخب الناس وتجمعاتهم، لم يمنعه الضجيج والزحام من الكتابة الرصينة والتحليل العميق، بما قد يثير الدهشة والتساؤلات عن كيفية تمكنه من ذلك، بينما ناقد آخر قدير وله بصمته المميزة مثل كمال رمزي يكتب في أجواء مختلفة، تكون على الأغلب أكثر هدوءاً بما يعينه على التأمل واختيار مفردات الكتابة بدقة وحرص. وعلى أي حال فإن الدور المحوري للنقد إثرائي وضروري، ويصب بكل مستوياته في زوايا الحرفة والموهبة والعلم.

* كيف اتجهت بوصلتك نحو عالم النقد السينمائي والكتابة حدثينا؟

 – في طفولتي كانت عيناي قد تعلمت أن تسبق شفتاي إلى أي كلمة مكتوبة، فمنذ تعلمت القراءة كنت أصطاد الحروف وأنشغل بإعادة تركيبها، أتابعها على مهل كأنني أختزنها.. كلمة على علبة سجائر أبي وصحيفته وعناوين كُتبه والمصحف الكبير على المنضدة الصغيرة التي تتوسط غرفة المعيشة، زجاجات الأدوية، الملصقات على الثلاجة، أوراق الجرائد المقصوصة على هيئة مثلثات التي كانت جدتي تفرشها في الدولاب الزجاجي وترص عليها بعناية الأطباق والأكواب. إدراكي البصري سبق إدراكي المعرفي وأشعل خيالي، فكنت أتصور حكايات وراء الكلمات وأتخيل شخوصها وكبرت لعبة الحروف، فكنت أقرأ الكلمات بحروف مقلوبة وبالتالي أقلب معها الحكايات، أتخيل النهاية أولاً ثم أسرد التفاصيل، بالضبط مثل الأفلام التي تبدأ بالمشهد الرئيس أو الحالي وبعده تعود بنا إلى فلاش باك، كما اعتادت أمي أن تأخذنا في رحلة فلاش باك وتُلون أمسياتنا بحكايات طفولتها وحين تأتي عند سينما سعودي كانت تتوقف كثيرا..

سينما سعودي كانت صالة العرض الوحيدة في “طوخ” المدينة الصغيرة التي تتبعها قريتنا، كان يمتلكها جد الفنان فتحي عبد الوهاب وكانت واحدة من دور العرض الخاصة التي انتشرت بعد ثورة يوليو في الأقاليم والريف والأحياء الشعبية داخل المدن. ذهبت أمي إلى سينما سعودي وهي صغيرة مرارا برفقة جدها الذي حرص على ألا يفوته أي فيلم، بنفس درجة حرصه على حضور حفلات أم كلثوم قدر الإمكان. كانت أمي تستعد لهذا اليوم الذي تشاهد فيه شخوصا مختلفين يتحركون على الشاشة غير الموجودين في حياتها وتتابع قصص وروايات تقمصتها فيما بعد، ثم تقمصتني أنا أيضا التي لم أشاهد سينما سعودي على الإطلاق، فالزمن تغير نسقه و”اتشقلب” حاله على طريقة نظرية الحراك الاجتماعي للمفكر د. جلال أمين في كتابه “ماذا حدث للمصريين؟”، مجرورا وراء منظومة السبعينيات الانفتاحية والتبعية للنظام الرأسمالي العالمي والهجرة وما نتج عن ذلك من تشوه قيمي وسلوكي في كل مظاهر الحياة ومنها السينما، فأُغلقت سينما سعودي وتحولت واجهتها إلى مقهى شعبي تُجاورها محال تجارية تصدرتها صورة حسني مبارك (تم إزاحتها الآن) مُوازية لصورة السادات، بينما ظلت صورة عبدالناصر في ركن بعيد منزوِ بأحد المحال.

 المثير أنني دخلت السينما لأول مرة وكنت بالكاد أتممت شهرين من عمري، بصحبة أبي وأمي في دار عرض   بمدينة الزقازيق حيث كان يعمل أبي في بداية مشواره المهني في أول السبعينيات ( سينما مصر وسينما سلمى شكلا جزءاً كبيراً من وجدان أجيال ولم يعد لهما وجود)، كان الفيلم المعروض هو (أبي فوق الشجرة) بطولة عبد الحليم حافظ وعماد حمدي ونادية لطفي وميرفت أمين، قصة إحسان عبد القدوس وسيناريو سعد الدين وهبة ومن إخراج حسين كمال، الفيلم الذي اعتبر وقتها من أقوى الأفلام الاستعراضية ومن أكثر الأفلام العربية تحقيقا للإيرادات، واستمر عرضه أكثر من 58 أسبوعا وزادت بعرضه بعد ذلك سنوات في دور العرض الصغيرة بالأقاليم، قالت أمي إنه عندما تلقى عبدالحليم حافظ صفعة عماد حمدي الشهيرة، انفعل الجمهور وكاد أن يحطم السينما بينما ظللت أنا أبكي بشدة، وكأن دموعي هي ماء معموديتي في السينما. لا أستطيع أن أحدد الآن هل كان فيلم “أبي فوق الشجرة” هو نقطة البداية في علاقتي بالسينما، أم أنه أيضا إشارة الولوج إلى شخصيتي الرومانسية أو التائهة؟ اللعبة الجوزائية المعتادة، لكن المؤكد أن علاقتي بالسينما بعد ذلك تلخصت في مشاهداتي للأفلام القديمة على شاشة التليفزيون في المنزل، حتى قضى الله أمرا كان مفعولًا، حيث لعبت الصدفة دورها ووقعت عيناي على مقال نشرته إحدى المجلات للناقد الكبير علي أبو شادي عن فيلم “الجوع” للمخرج علي بدرخان في العام 1986، كنت لا أزال طالبة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها وقرأت مقال علي أبو شادي فتعلقت من خلاله بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي، يومها لم أكن قد شاهدت الفيلم في السينما، وربما شاهدته بعد ذلك بسنوات عبر أشرطة الفيديو لكن مقال أبو شادي ظل طوال الوقت هو مفتاح الفيلم، بل ومفتاح اهتمامي بالسينما وعالمها. اخترت مهنة المتاعب الصحافة، فحظيت بالاثنتين: الصحافة والسينما، استحوذ عملي الصحفي على كل تفكيري ووقتي عن طيب خاطر، وأحببت السينما لدرجة الولع ومشيت في دروبها على مهل أبحث وأكتب، ما حقق لي ما رغبته دائما في متابعة الأفلام ومتعة الحكي.

 *أنت تحرثين في حقول شتى ما بين الأدب والفن السينمائي كمحاورة وناقدة إضافة إلى مسارك في الإعداد الدرامي، فأيهما له الأولوية في نتاجاتك، وألا ترين أن هذه التوليفة من النتاجات تبعدك كثيراً عن الحقل الإبداعي في الأدب؟

 – بدأت الكتابة الأدبية مبكراً، حتى أننى لا أذكر متى بدأت بالضبط، ولا أذكر حتى الحافز المباشر الذي جعلني أكتب قصتي الأولى، وإن كنت أذكر أنني حرصت على إرسالها إلى إحدى مجلات الأطفال، وقرأتها لشقيقاتي وسط دهشتهن التي غطت على ضحكات الكبار في عائلتي، ولحسن حظي أن أمي شجعتني على المواصلة والاستمرار حتى صارت الكتابة تحتل الجزء الأكبر من اهتمامي، رُحت أنشر ما أكتبه في مجلة المدرسة، حتى نشرت لي أول قصة في مجلة صباح الخير” عام 1990 لما التحقت بالجامعة وبدأت بموازاة الدراسة، تدريبي العملي في مجال الصحافة؛ ومنذ تلك اللحظة صار عملي في الصحافة له الأولوية والمساحة الأكبر، أكتب القصة وأنشرها بشكل متفرق ومتباعد في بعض المجلات، بينما يستحوذ عملي الصحفي على كل تفكيري ووقتي عن طيب خاطر، خصوصاً أن تركيزي على الكتابة السينمائية حقق لي ما رغبته دائماً في متابعة الأفلام ومتعة الحكي خلالها، وهذا كان له تأثير كبير في شكل كتاباتي عموما حيث تتغلب عليها الصورة، ربما تأثرت بالسينما بحكم عملي ولكنني مهتمة دائما بالتفاصيل التي تصنع صورة وتكونها، كما لو كنت أنا شخصيا داخل الكادر أرتب الأشياء وأزيح بعضها فيما أقدم الآخر، على أي حال فإن الصورة عندي بطل يسهم في هذه الحالة المتفاعلة مع الحقيقي والافتراضي مما يزيد من الشغف ويخلق حالة من التشويق تشبه التشويق السينمائي.. ربما يرى البعض أن اهتمامي بالصورة جعلني بعيدة عن حقل الكتابة الأدبية وأظنهم محقين، لكن هذا أمر لم يفزعني إطلاقا لأنني طوال الوقت أفكر بروح الهاوية أكثر من المحترفة، ويعنيني أكثر فعل الحكي والتفاعل معه، وأعرف أن كل شيء يحدث في موعده.

قد يعجبك ايضا