الجزء الخامس
د. عبد الخالق الفلاح
لقد تحدثنا عن سمات الناس الذين سكنوا منطقة باب الشيخ وحول الطبقات التي عاشت وتداخلت بالوضع المعيشة وكانت البيوت اغلبها شرقية وتدخل لها عن طريق المجاز (الممر الذي يدخلك إلى البيت) يأتي صحن البيت او الحياة او (الحوش) وتتناثر حوله الغرف ومنها غرفة الاستقبال التي هي غالباً ما تكون قريبة من باب الخروج او ممر الخروج (المجاز) ثم السرداب العمق تحت الأرض وبه (ألبادكير) وهو للتهوية بدل الوسائل الموجودة والحديثة التي يستفاد منها عالم اليوم مثل البنگة والبرادات واجهزت التكيف الاخرى المختلفة الغازية والكهربائية والمائية وتأتي من السطح عن طريق ثقوب مبنية لهذا الغرض ثم هناك الأحواض من الماء فيترطب الهواء الجاف ويبرد الحوش في وقت العصر حيث تجتمع العائلة ويكون بحضور كبير العائلة على الارجح وتتوسطهم المنقلة او الجولة والطباخ او السماور او البريمز النفطي وعليه قارورة (القوري) الشاي السيلاني او الهنديوالجورك او البقصم او الكعك البغدادي، السادة وابو السمسم وابو الدهن، وقد تكون عندهم حديقة صغيرة جميلة تتوسط الحوش متنوعة الاشجار والاوراد ويطل على هذا الصحن طرار وفيه الدلكات (طارمة فيها أعمدة) من الخشب او الحديد او من الطابوق وعدد من الغرف التي تطل شبابيكها على الحوش والارضية غالباً ما كانت مفروش بالطابوق الفرشي (الاجور) المربع او المستطيل والسقوق على الاكثر من الخشب المردي ويستفاد من أنواع من الحصران مثل:
- الباري في السطوح للنوم و هو نوع من الحصير الذي يصنع من القصب بعد شرخه طولياً على شكل أشرطة وحياكته وهذا الحصير يستخدم سابقاً في تسقيف البيوت وكذلك يستخدم لعرض الخضروات عليه وكذلك الرقي لدى باعة المخضر لمتانتها وقد يستخدم أسفل الفراش في السطح لمنع الفراش من التلوث بتراب اللبن أو قد تصنع منه السلال لنقل الفاكهة والخضر أو ببناء الجراديغ لخزن التمور والحبوب أو جراديغ السياحة على نهر دجلة للاستجمام أيام زمان ودخل الحديد بعد الحرب العالمية الاولى في الثلث الاول من القرن الماضي في البناء بشكل مكثف الى العراق
- حصير البردي، وهو الحصير الذي يصنع من حياكة البردي ويكون نوعاً ما سميك وناعم تستخدم لفرشه على القنفات في المقاهي لكن عند يباسه يبدأ بالتفتيت
- حصير القنب، هو الحصير الذي يستخدم من أعواد القنب بعد سلخها وحياكتها يصنع منها حصير ناعم وذو مقاومة جيدة ولا تتأثر كثيراً بالماء وكانت تستخدم في المساجد للصلاة قبل ان تفرش بالفرش الحديثة (الزوالي) المتنوعة التي غزت و كل المساجد والحسينيات والأضرحة وكذلك كانت تستخدم في البيوت لنومه القيلولة بعد رشه بالماء أو لجلسة العصرية في البيت عند شرب الشاي وقد تستخدم بفرشها على مصاطب الجلوس (كنبات) المقاهي وتوضع أسفل السجاد والبسط في الشتاء لحمايتها من رطوبة الأرض.
- حصير خوص سعف النخيل، ويصنع بحياكة خوص السعف لعمل حصران تستخدم للجلوس أو للصلاة أو سفرة طعام وقد يصنع بنفس الطريقة خصافة التمر أو الكواشر (زنبيل) كانت أمهاتنا يحملنه للتسويق على رؤوسهن والطبگ الخاص للتنور لفرش الخبز ويوضع العجين عليه بعد فرشه بالطحين كي لا يلتصق العجين بالطبگ وأكثر البيوت كانوا يخبزون الخبز في البيوت اما للكل او للارتزاق في بيعه ليكون عونا اقتصادية للعائلة.
باب الشيخ في قلب بغداد ومركزًا مهماً فيها بيوتات الشخصيات الحكومية وبالتالي فإنها قلب العراق النابض في الزمن الماضي وغابات آثاره وكانت مجمعاً السفارات القبائل العربية والتركمانية والكوردية والسكن فيها وخاصة من مختلف عشائر الكورد الفيلية (الماليمان، ملك شاهي، قيتولي، لر، علي شيروان، موسي، زنگنة، شوهان، والباوى …) وعشائر من خانقين ومندلي مثل الكاكائية والقرلوس والزنگنة ومحافظات إقليم كوردستان حيث كانت المنطقة مركز لهم و تضم الالاف منهم وكذلك عشائر من التركمانية واعداد من الصابئة المندائيين والمسيح لقربهم من محلة (كمب الارمن) التي تقع بين مقبرة الغزالي ومحطة وقود الكيلاني على شارع الشيخ عمر وكذلك سكنها عدد من أمراء القبائل الذين كان لهم الشرف في حماية بغداد والعراق من أي عدوان وكذلك سكنها عمالقة العلم والتجارة والاقتصاد ليكونوا قريبين من منطقة القرار وبهم كانت ترسم سياسة العراق الدفاعية الأمنية والاقتصادية والعلمية.
وتحيط بالمحلة الشوارع التالية: الكفاح، والشيخ عمر، وشارع الكيلاني، وشارع العوينة الذي يذهب باتجاه رأس الساقية ومن ثم شارع الجمهورية (الملكة عالية) الذي أصبح فيما بعد بشارع الجمهورية. ومن حاراتها: عقد الاكراد. رأس الساقية. سراج الدين. حجي فتحي. الدوگجية. فضوة عرب. فضوه مرجان. التسابيل. قهوة شكر. وراس الجول. العوينة. الصدرية التي كانت تحتوي على أهم المحلات التجارية لبيع الحنطة، والشعير والتمر والتمن والخضروات واللحوم بأنواعها والاسماك والدجاج ومحلات بيع التوابل والأقمشة وكل ما تحتاجه العائلة.
ويحكى حول طيبة أهالي المنطقة في الرحمة والشفقة فيما بينهم أن رجل حمال كان جالساً في السوق ينتظر من يؤجره لحمل بضاعته وهو يشاهد الناس يتحضرون لأيام شهر رمضان فقال: (خي عونه العنده ويتحضر لرمضان) فسمعه قصاب قريب منه فصاح عليه وقال فلان أحضر لي عربه (وكان يقصد عربة ربل) واحضر هذا الحمال العربة وقال له خذ هذا اللحم وضعه في العربة وتعال معنا ففرح الحمال لأنه حصل على عمل وأخبر العربنجي بأن يذهب بنا إلى الشورجة وهناك وقف قرب محل صديقه وبدأ يتسوق منه ما يتطلبه رمضان ثم صعدنا بالعربة وقال لي: ولدي وين بيتكم؟ فقلت: ليش عمي؟ قال أخبرني: فقلت في المكان الفلاني فقال العربنجي اذهب فوصل فلان مع العربة الى المكان الفلاني. وبالفعل وصلني وقال: خذ كل ما بالعربة فهو مسواق رمضان لعائلتك! والصدرية من الأسواق القديمة وفيها مسجد سراج الدين فيها مقهى عباس الديك المصارع العراقي المعروف في الزورخانة الذي غلب المصارع الألماني گريمر ومصارعين من إيران.
اشتهرت منطقة باب الشيخ ببيع نوع من السمك يسمى (الجري) حيث يباع في مطاعم خاصة وعلى الرصيف ويقلي قطع السمك في آنية كبيرة تسمى (طشت) كبير الحجم فيه زيت مغلي ويقدم للزبائن وينشط سوقه في يوم الجمعة حيث يكون الإقبال عليها كبيراً أكثر من الأيام العادية. العوائل البغدادية او الافراد تحضر لتأخذ السمك الجري من المطاعم الذين لديهم عمالا يقومون بتلبية طلبات الزبائن، سواء داخل المطعم او البيوت او على الأرصفة القريبة للمطاعم.
وهناك اماكن في أيام الأعياد كانت تقام فيها أماكن للتسلية مثل المراجيح ودواليب الهوى (وهي حبال تعلق على الأشجار ذات الاغصان القوية او تربط على النخيل ويجلس عليها المشاركون ثم يتم دفعهم ذهابا واياب في الهواء بفرح) وركوب بعض الدواب مثل الخيل والحمير والعربات التي تدفعها او تجرها الحيوانات في رأس الجول قرب سكلات الخشب وفضوة عرب أو بين الخلاني والمربعه.
ويذهب القسم الاخر الى بارك السعدون وهي حدائق كبيرة يجتمع فيها الناس من اكثر محلات المناطق القريبة ومع الاسف بعد ان كانت هذه الحديقة غناء بأنواع الاشجار والورود المختلفة سابقاً ملجأً ومتنفساً تريح فيها النفوس وغالباً ما كان يحضر فيه الملك فيصل الثاني والعائلة المالكة لمشاركة مع العوائل افراحهم وهي مهملة في الوقت الحاضر وكانت تباع هناك الأكلات السريعة والمشهورة مثل أبيض وبيض العمبة والصمون، والفلافل والطرشي وبعض المرطبات والشرابت مثل السيفون ابو البوزة والشاي والجكليت والحامض حلو وما إلى غير ذلك.