مصطفى حسين الفيلي
في التاريخ الحديث، لم تعرف البشرية قوة ناعمة تضاهي ما صنعته الولايات المتحدة عبر السينما. لم تكن هوليوود مجرد مركز لصناعة الأفلام، بل مصنعًا ضخمًا لإنتاج الخيال الموجّه، وغرفة عمليات ثقافية كبرى لإعادة صياغة الوعي الجمعي العالمي. لم تسعَ أمريكا للغزو الثقافي بالسلاح، بل بالصورة، وبالحكاية، وبالبطل الهوليودي الذي لا يُهزم.
منذ بدايات القرن العشرين، أدركت واشنطن أن الكاميرا قادرة على فعل ما تعجز عنه المدفعية. وأنّ الغزوات الثقافية قد تكون أكثر فاعلية من حملات الجيوش. فاستثمرت في السينما ليس بوصفها ترفيهًا، بل بوصفها مشروعًا استراتيجيًا طويل الأمد، يُعيد إنتاج القيم الأمريكية، ويسوّق الحلم الأمريكي في أذهان الجماهير من الشرق إلى الغرب.
بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة ترميم صورتها أمام الشعوب، خاصة في أوروبا والعالم الثالث. ولم يكن الطريق سياسيًا فقط، بل ثقافيًا وإعلاميًا. وهنا، ظهرت مارلين مونرو، ليس كمجرد نجمة إغراء، بل كرمز مصنّع بعناية، يمثل الحياة الجديدة، والجاذبية الأمريكية، والأنوثة المتحررة، والثقافة الهشة اللطيفة، التي تتناقض مع قسوة الحروب.
هكذا بدأت أمريكا حملة ناعمة لصياغة صورتها الجديدة، عبر السينما، والموسيقى، وأيقونات ثقافية حملت معها رسالة واحدة: نحن المستقبل، ونحن الجمال، ونحن الحداثة. كان الأمر أكبر من ممثلة أو فيلم؛ كان مشروعًا حضاريًا لتصدير أمريكا كفكرة، لا كدولة فقط.
في أفلام الأكشن والخيال العلمي، التي أنتجتها هوليوود منذ السبعينات وحتى اليوم، كنا نشاهد ما ظنناه مستحيلاً: أقمارًا صناعية ترصد التفاصيل، طائرات بلا طيار، ذكاءً صناعيًا يتحدث ويقرر، أسلحة دقيقة التوجيه، جنودًا خارقين، عوالم موازية، تقنيات خرافية، أنظمة مراقبة، مدنًا ذكية، واتصالات فورية عابرة للقارات.
لكن المفاجأة أن كل تلك “الخيالات” أصبحت واقعًا. من الإنترنت إلى الأقمار الصناعية، ومن الهواتف الذكية كل شيء خرج أولًا من عقل السيناريست الأمريكي، قبل أن يصبح منتجًا تكنولوجيًا حقيقيًا. وكأن السينما لم تكن تحاكي المستقبل، بل كانت تصنعه.
بعد حربي العراق (2003) وأفغانستان، واجهت واشنطن أزمة أخلاقية في نظر العالم. فانهالت الانتقادات، وبرزت صور الضحايا والدمار والاحتلال. لكن أمريكا لم ترد عبر السياسة وحدها، بل دفعت بهوليوود إلى الواجهة لتغيير الرواية.
أُنتجت أفلام مثل The Hurt Locker وAmerican Sniper وZero Dark Thirty، لتقدم الجندي الأمريكي لا كغازٍ، بل كبطلٍ محاصرٍ بالمهمات المستحيلة، منقذ للمدنيين، محارب للإرهاب، ضحية لصدمات الحرب، ومجسد للقيم الأخلاقية في عالم مضطرب. وهكذا، أعادت السينما رسم صورة الجيش الأمريكي، وغسلت الذاكرة البصرية للمشاهد، لتجعل من الغزو “تحريرًا”، ومن الحرب “ضرورة أخلاقية”.
لم تكن هوليوود أقل أهمية من CNN أو البنتاغون. بل كانت ذراعًا ناعمة موازية، تعمل على المدى البعيد، تغرس في الوعي صورة أمريكا كقوة خيّرة، شرطي عالمي، وملهم ثقافي. كل بطل خارق أمريكي هو نسخة مجازية من الجندي المثالي، وكل نهاية سعيدة في الأفلام الأمريكية هي رسالة ضمنية: نحن منقذو العالم.
حتى في الخيال البحت، كما في أفلام مارفل وDC وأفاتار وإنترستيلر، لا تغيب الرسالة. القوة تصنعها القيم الأمريكية. الأبطال لا يأتون من الشرق، ولا من الجنوب العالمي، بل من قلب النظام الأمريكي، الذي يُصدَّر بوصفه “النموذج الكوني”.
أمريكا، التي عرفت كيف تهيمن اقتصاديًا وعسكريًا، فهمت أيضًا كيف تهيمن ثقافيًا ونفسيًا. فأنتجت أفلامًا لا تهدف فقط إلى الربح، بل إلى تطويع الإدراك، وإعادة توجيه المشاعر، وصناعة الولاء الثقافي.
الخيال الهوليوودي لم يكن بريئًا. لقد صُمم بعناية في غرف السياسات الناعمة، ليخلق لدى الشعوب تصورًا مسبقًا عن “العدو”، وعن “الحق”، وعن من يستحق أن يحكم العالم. ليس عبثًا أن وجوه الأشرار غالبًا ما تميل إلى الملامح الشرقية، أو تتكلم بلهجات غير أمريكية، في حين أن الخير يُجسَّد دائمًا على هيئة جندي أمريكي أو عالم أبيض البشرة.
السينما الأمريكية ليست فقط مرآة لثقافة، بل سلاح ثقافي لتشكيل العالم على صورتها. وبينما تنشغل دول العالم بحدودها وصراعاتها المحلية، كانت أمريكا تبني إمبراطوريتها على الخيال، وتُصدّر قصتها إلى كل بيت، وكل شاشة، وكل عقل.