د. ابراهيم احمد سمو
[ كتبتُ هذه المسرحية وأنا أُجد نفسي، بعد أن خرجتُ من الدار، وبالتحديد عند باب جامعة دهوك، حيث هاجمتني مجموعة من الكلاب السائبة. وبقدرة قادر، مرّت سيارة أحد الأصدقاء وأنقذتني من موتٍ محتم، كأنني كنتُ محكومًا بالقتل. لذلك، لا أريد لأحد أن يأخذ مسار هذه المسرحية على نحو آخر، فهي نابعة من تجربة واقعية. ومن هذه الحادثة خرجتُ بفكرة رأيتُ أنها تصلح لأن تُكتب كمسرحية، وها قد كتبناها أعلاه]
العنوان
“الكلاب السائبة… حين يغيب الإنسان
الشخصية الوحيدة:
الرجل – في الأربعين من عمره، يحمل حقيبة جلدية بالية، يقف وحيدًا على خشبة مسرح شبه معتمة. يتلفّت يمنة ويسرة، خلفه شاشة كبيرة تُعرض عليها صور متحركة لطرقات خالية في مدينةٍ مهجورة، تمرّ فيها بين الحين والآخر كلاب سائبة تلهث أو تعوي في الظلام.
(ضوء خافت على وجه الرجل. يبدأ الحديث كأنه يخاطب الجمهور أحيانًا، وأحيانًا نفسه.)
الرجل (بصوت متردد):
هل رأيتموهم؟
(يصمت قليلًا ويشير بإصبعه المرتجف)
أولئك الذين يعوون في الليل، ولا يميزون بين صديقٍ وعدو، بين سائلٍ عن خبز وبين من يحمل حجارة…
(يقترب من مقدمة المسرح، يهمس وكأنه يبوح بسر كبير)
لم أكن خائفًا من الكلاب في صغري… كنا نرمي لها بقايا العشاء، ونعرفها بالاسم.
كلب العم سعيد كان ينام على عتبة الدار، لا يهاجم أحدًا، بل يحرسنا من اللصوص.
وكلب الجيران… (يبتسم) كان يأتي ليأكل معنا، ثم يعود إلى ظل الحائط يحلم.
(فجأة يتغير صوته، تزداد نبرته حدة)
لكن كلاب اليوم ليست ككلاب الأمس.
الكلاب الآن… (يتوقف، يضغط على أسنانه)
صارت سائبة.
مفترسة.
لا تعرف حراسة ولا وفاء.
تنبح في وجهك، ولو كنت جائعًا مثلها.
تنقضّ عليك، إن رأتك وحدك.
(يمشي ببطء، كأنما يستعيد مشهدًا مؤلمًا)
كل صباحٍ أمرّ من الطريق ذاته، أراهم يخرجون من الظلال، من بين الحفر، من وراء الجدران المهجورة…
عينٌ على الطريق، وعينٌ على النجاة.
وأقول: من سيكون فريستهم اليوم؟
أنا؟ طفل في طريقه إلى المدرسة؟ امرأة تحمل كيس خضار؟
من؟!
(يصمت طويلًا، ثم يعود للحديث كأنما يخاطب نفسه)
هل أقول إنني أبالغ؟
لا…
فهذا يحدث.
حدث معي.
ويحدث مع غيري.
(يجلس على كرسي قديم في منتصف المسرح)
المشكلة ليست في الكلاب فقط…
(يخفض صوته)
المشكلة… فينا.
نحن البشر… صرنا أضعف من أن نحمي أنفسنا.
نخاف من صوت العواء، ونحتمي خلف هواتفنا، نصوّر، نشارك، نكتب: “الكلاب هاجمتني”،
ثم ننام…
كالعادة… ننام!
(ينهض فجأة)
وهنالك من يصرف على كلابه الآلاف،
يعطونها لحمًا طريًا، أسِرّة ناعمة، موسيقى هادئة، وربما علاجًا نفسيًا!
والسائبة؟
في الشوارع، تقتل، تروّع، تُهمل، ثم تُحمى باسم “الرحمة”.
أي رحمة هذه؟!
رحمة للكلاب… لكن لا رحمة للناس؟
أين العدالة؟ أين الموازنة؟
(يأخذ نفسًا طويلًا)
أنا لا أكره الكلاب، والله لا أكرهها.
لكنني أخاف.
نعم، أخاف أن نصير نحن .. اسف …….…
ونترك الشوارع لهم.
(يتوقف ويحدّق في الجمهور)
هل تعرفون؟
أصبحت الكلاب اليوم “تريند”.
نراها في الأخبار، في فيديوهات التيك توك، في منشورات الفيسبوك.
من يهاجَم يضحك الناس عليه…
ويكتبون في التعليقات:
“ليش ما ضربته؟ ليش ما ركض؟ ليش ما هجم؟”
(يصرخ)
وهل نحن في فيلم أكشن؟
أم في مدينة صارت الغابة عنوانها؟
أنا، وأنت، وهو…
صرنا في خطر… كلنا في خطر.
(يصمت طويلًا، ينظر إلى الأرض ثم يرفع رأسه)
أصدقكم القول…
ليست المشكلة في الجوع.
فالزّاد كثير.
القمامة ملأى.
لكنهم – تلك الكلاب – ما عادت تأكل من أجل البقاء،
بل من أجل…
(يتردد)
من أجل العدوان.
نعم… العدوان.
(يضحك بسخرية)
الكلب الأمين مات.
الكلب الحارس ذهب.
وجاء جيل جديد…
جيل الغدر.
جيل العضّ قبل العواء.
جيل لا يميّز بين طفل وشيخ، بين مارّ ومتسوّل.
(يمشي بحركة دائرية، يغيّر نبرة صوته كأنه يتقمص شخصية مدافع عن الحيوان)
“ارفقوا بالحيوان!”
جميلة العبارة.
أنا معكم.
لكن… أين “ارفقوا بالإنسان”؟
لماذا لا يصرخ أحد حين يُنهش لحم عجوز في شارعٍ مظلم؟
أين أنتم؟
يا من تصرخون إذا أُذِيَ كلب…
ولا تتحركون إن هاجمت الكلاب أسرةً كاملة!
(يصمت، يتنهد)
المدينة… لم تعد مدينتي.
والنهار… ما عاد مضيئًا كما كان.
في كل زاوية ظلٌّ وخوف،
وفي كل شارع قصّة عواء… ورعب.
(يركع على ركبتيه)
يا الله…
امنحنا شيئًا من الأمان.
أو علّمنا كيف نكون كلابًا “استغفر الله… هذه جملة استعرتها من أحد الأصدقاء في وقت المحن، حين رأى كلبًا نائمًا تحت الظل، في وسط النهار وتحت حرٍّ لاهب، والعذاب يحيط بكل شيء. عندها قال كلمته الشهيرة وهو ينظر إلى الكلب: (يا ليتني كنت مكانك). ومنذ ذلك اليوم، شعرتُ أن الألم قد يبلغ بالإنسان حدًّا يتمنى فيه لو كان كلبًا نائمًا تحت ظل، لا يطالُه من العالم شيء. كانت تلك اللحظة عام 1988، ووجدتُها فرصة الآن لإعادة استحضارها وتوظيفها في هذه المسرحية… حتى ننجو.
فمن لا يعوي… يؤكل.
ومن لا يعضّ… يُنهش.
(ينهض ببطء، يلتفت حوله، صوته ينخفض تدريجيًا)
الكلاب السائبة ليست فقط في الشوارع…
ثمة كلابٌ أخرى… في الكلام، في المواقف، في الخيانة،
في صمتنا.
(آخر جملة بصوت خافت جدًا)
ربما نحن من تركنا الباب مفتوحًا…
ورحلنا دون أن نحرس بيتنا.
(تُطفأ الأنوار تدريجيًا، وتُسمع أصوات عواء في الخلفية. تسدل الستارة.)