– بصيص أمل – ج 3 من لعبة الأقدار

ماهين شيخاني

ونحن نتسلق الساتر الترابي كان يرافق خفقان القلب المتسارعة صوت من أحشائي يحفزنا للخروج من دوامة الخوف والرعب , اجتزنا الساتر , سحبت نفسا عميقا وبحركة لا ارادية بسطت يداي , تنفسنا الصعداء وحمدنا الله على وصولنا لبر الأمان بسلام ، سلكنا الدرب الذي دلنا المهرب نحو وميض بعيد, كنا نخطو بصعوبة نحو مرتفع وما ان وصلنا بشق الانفس حتى مر بجانبنا ” عتال ” حاملا العجوز الذي رأيناه في الوادي , سبقنا بمترين أو أكثر ثم توقف عن السير وأنزله من ظهره كي يأخذ قسطاً من الراحة ليستأنف طريقه , وما أن وقف العجوز المسكين على رجليه فقد توازنه وهوى , ارتطم قفاه بالأرض وصدر صوتاً كادت تأتي بأجله ومازالت تلك الواقعة تعكر صفوتي , مررنا بجانبه , لا حول لنا ولا قوة لانسطع مساعدته, لكل منا حمولة لا يستطيع تركها , سرنا ونحن نتألم لما حصل له ولنا وما حل بنا , علينا الاسراع والهروب والانقاذ ما يمكن انقاذه , ثمة امل وثمة ضوء تفجر ينابيع الثقة واليقين والخلاص من براثن كادت تقذفنا نحو الهلاك , ثمة ضوء ينقذ لحظة اختناق الأمل في ذواتنا , وتبعدنا عن اليأس والاستسلام .

أحمل طفلي على كتفي المتعبتان وبيد الأخرى حقيبة ثقيلة بالنسبة لي وكانت فكرة ذكية من أم محمود بان تركت أغلب الألبسة في قامشلو , العرق يتصبب من كل أجزاء جسدي المنهك حتى أحسست بأن الحذاء رطب وراودني قصة عبور أحد أستاذتي الذي اجتاز الحدود بين سوريا وتركيا ولكونه مريض القلب توقف قلبه الكبير على الحدود وتركوه هناك مجبرون .

كانت المسافة بالنسبة لي بعيدة ,ألهث من التعب , يرتفع صدري ثم يهبط , لاحظت شريكة حياتي حالي اقتربت وانزلت الطفل ليسير مشياً على أقدامه بين الأشواك والتراب وتأبطت ذراعي الأيسر وهي تنظر ألي وبعد بضع خطوات شبكت يدها بيدي ،أحسست بما يشغل بالها , بشعورها وهي لا تصدق كيف قطعتُ هذه المسافة الطويلة ،أحسست بطاقة هائلة تسري في جسدي ,تمدني بالقوة والثبات , كان شعوراً جميلاً ونحن نواجه الغموض , منذ سنتين و نصف لم ألمس يدي زوجتي بهذا الدفء والحنية.
كانت حلقة الضوء تتوسع رويداً رويداً كلما نخطو خطوة و نتقدم , أصبحنا نرى أخيلة الأجساد وحركاتهم حتى وصلنا إليهم , كان في استقبال الفارين بمسافة قصيرة شخصان من البيشمركة دنا منا أحدهم باحترام وقال : على الرحب والسعة , واسمحوا لنا بتفتيش أمتعتكم ..؟.
– بكل رحابة صدر , هذا واجبكم …لا ضير في ذلك ..؟.
– تفضلاً الى ذاك المكان لانتظار دوركم , كان هناك أكثر من ستون شخصاً – حسب تسجيل الارقام في الجدول – جالسون ينتظرون الدور , قدموا لنا علب المياه وبعض المعجنات , انتظرنا قليلاً ثم نقلونا الى مكان آخر بالقرب من الطريق لننتظر المركبات التي تقل الناس الى مركز التجمع , عرفتُ حينها بأننا لسنا وحدنا بل هناك مخافر تنتظر لاستقبال الفارون من أتون الحرب , أخرجت هاتفي والرقم السوري كان فعالاً هناك اتصلت مع خال الأولاد ليخبر ولدي الكبير” آزاد ” بأننا انتقلنا الى الطرف الآخر بسلام ومن ثم اتصلت مع رفيق لي عن طريق الماسنجر ” عبد ” لكنه لم يرد ربما بسبب ضعف النت هكذا ظننت , فأرسلت له رسالة لإعلامه بوصولنا .

وصلت الحافلات بحدود الساعة الثالثة صباحاً , ونسمات باردة تلسع أجسادنا , بدأوا بتلاوة جداول الأسماء حسب الدور والناس تصعد بهدوء , وامتلأت الحافلات وأسرتي ترتجف من البرد , ولأن كروبنا وصل متأخراً , كان حظنا ركوب بيكاب دبل كراسي أعتقد تسمى بالدفع الرباعي , الأم وأولاد بالكابينة وأنا وابنتي الكبيرة صعدنا الصندوق الخلفي حيث كان هناك ثلاث شبان متواجدون قبلنا , أفسحوا المجال لابنتي كي تقي نفسها من الهواء البارد , سألت أحد الشبان من أين أنت ..؟.
– من الدرباسية …؟.
– قلت له ابن من ..؟!.
– أنا طالب جامعي من قرية قرمانية وأبن فلان الفلاني من عشيرة الشيخان..
– ابتسمت …وقلت له : عرفت والدك ..؟!.
– كيف ..من أين أنت يا عم..؟.
– من نفس الدرباسية ومن نفس العشيرة .
– حضرتك شيخاني ..؟.
– نعم هكذا يقال في التصنيف العشائري… بصراحة لا أتجرد منها و لكنني كوردستاني ، لا أهتم بالأمور العشائرية , الأولوية لقضيتي ومن ثم تأتي القضايا الأخرى , أنت طالب جامعي وتفهمني , أليس كذلك ..؟.
– نحن أيضاً كنا نقيم في العاصمة “دمشق “, لكن بعد ال2011 اضطررنا للعودة الى القرية , ووالدي يعمل الآن بالبلد ..؟.
أخرج علبة الدخان من جيب سترته وقدم سيجارة لي , أخذت السيجارة , أشعلتها وسحبت نفساً طويلاً ثم نفخت حيث تراءى لي سحابة الدخان من خلال انعكاس أضواء السيارات المارة و قلت :
– ليتك تعزف عن الدخان , خذها نصيحة من عمك , ستندم مع مرور الزمن , الإدمان عليها مشكلة ستتعود عليها ولن يكون باستطاعتك تركها ولن تتخلص منها .
كان سرعة الآلية وحركتها تدل على أن طريق ممهد بشكل جيد لا تشبه طرقنا , بعد مسافة نصف ساعة أو ربما أقل وصلنا إلى نقطة عسكرية بدت هي مركز التجمع ونقطة الانطلاق تقع على الطريق العام , خفت سرعة المركبة بهدوء وركنت خلف رتل السيارات وبدأنا بالنزول والتوجه إلى فناء محاط بغرف ومكاتب , قدموا لنا شوربة ساخنة والشاي وبعد وجبة الطعام دخلنا خيمة كبيرة مليئة بالناس والضجة , استلمنا الاسفنجات والبطانيات ووضعنا امتعتنا بجانب رأسنا , وتمدد الأولاد منهكون وغطوا بنوم عميق , لكنني بقيت لمدة نصف ساعة خارج الخيمة لأدخن حينها لمحت شخص جالس القرفصاء وسانداً ظهره للجدار يشبه أحد طلابي ومن أقربائي , كان يتصفح موبايله ربما يراسل أهله ويطمئنهم , ولمحت صبية تتحرك بجرأة , هذه الصبية لا بد ان رايتها لكن أين لا أدري ثم قلت في قرارة نفسي يخلق من الشبه أربعون , بعد ذلك توجهت نحو الخيمة وتغطيت ولا أعلم كيف نمت , لم أفق إلا من خلال مناداة زوجتي .
كانت الشمس ومن خلال دخول أشعتها للخيمة تظهر بأنها سبقتني منذ ساعات , خرجت من الخيمة لأحصل على ماء لغسل وجهي ولأحصل مثل البعض على كأس من الشاي لأدخن سيجارة وهذا ما حصل ..؟. ثم جلست على بعد مسافة قصيرة من الخيمة , انتبهت الى تلك الصبية ناديتها :
– العفو يا آنسة من أين انت …؟.
– ابتسمت وقالت : صباح الخير خال , ألا تعرفني أنا جارتك السكنة بالطابق الثاني .
– أوه ولم انت هنا , أعتقد انت موظفة أليس كذلك .
– نعم انا وزوجي كلانا موظفان لدى الادارة , أوصلني وطفلتانا الى هنا وهو عاد الى رفاقه ولا أعلم هل سيعود لنا سالماً أم لا ..؟. إنه الحرب يا خال ..؟.
– على كل يا بنتي إذا احتجت أي مساعدة أنا واولادي بالقرب منك , وبعد ادلقت القسم المتبقي من الشاي , نهضت وتدرجت نحو الطريق القريب حيث تجمهر الناس لرؤية القوات الأمريكية وهي رافعة يدها لنا كمنقذين , لكن الناس الميؤوسة والغاضبة من سياستهم لعدم صد أو ردع عملية نبع السلام حسب تسمية الأتراك والأنكى من ذلك عندما أعلن الرئيس الأمريكي عن “نجاح كبير” بإنشاء “منطقة آمنة” على الحدود بين تركيا وسوريا ، فبدأت برمي الحجارة والبصق عليهم ومنهم من رفع يده ليشكل مع سبابته وإبهامه دائرة موجه لهم وهي شتيمة بحركة اليد .
_ انتهت _

قد يعجبك ايضا