د. توفيق رفيق التونچي
تمكن الأمريكان من أبناء الشعوب الأوربية اللذين لجئوا من القارة الى القارة الأمريكية وحتى دون حقائب سفر من تكوين احد أعظم أنظمة الحكم الحضارية المتطورة في العالم. ليس فقط لان هؤلاء لم يكن لهم اي تاريخ وتراث في وطنهم الجديد ليعتمدوا عليه ويقيد سقفهم المعرفي والاجتماعي ولكونهم من ثقافات مختلفة ومتباينة انصهرت لاحقا لتكوين الشخصية الأمريكية المعاصرة، لا بل لم يكن لهم حتى اي لغة مشتركة يتحدثون في مجموعات متفرقة بلغاتهم الأصلية من فرنسية وايطالية وبولونية وصينية انكليزية طبعا ولغات اخرى توحدت اليوم في اللغة الأمريكية كوليدة جديدة من رحم لغة الأم الانكليزية.
لم يتم كل ذلك بعيدا عن مشاركة العقول النيرة والعلماء . كل ذلك بعد صراعات بينهم خاصة بين هؤلاء من اصول فرنسية والاخرون من الاصول الانكلوساكسونية و حروب داخلية أهلية طويلة ونضال حضاري من اجل مساواة الحقوق بين المواطنيين و من الاصول المختلفة والغاء الرق والعبودية والتميز العرقي. تمكن العقلاء منهم وفي فترة تاريخية قصيرة ان يتحدوا على اعلان الاستقلال وسن دستور دولة اتحادية تتكون من ولايات لا تزال بنودها سارية المفعول لحد يومنا هذا. نهض الأمة برجال لم يكونوا ليفقدوا شيئا اي كما يقول العراقي ( بايع مخلص) وربما كان لهم تاريخا إجراميا في وطنهم الأم ولكن أيمناهم بالقدرات البشرية الفردية في الإبداع ورفع جميع الحدود والمعوقات التي تحدد الفكر، ادى الى ما هو عليه الولايات المتحدة اليوم.
حتى الافلام السينمائية التي انتجتها هوليود عن حياة رعاة البقر وصراعهم على الأرض وسلوكهم الإجرامي رغم انها مبالغ فيها ولا تمثل الا حقبة زمنية قصيرة جدا ومعظمها مبالغ فيه وخيالية لا تمت بالواقع وتصورات كتاب من زاوية عنصرية ونظرة دونية للشعوب الأصلية للقارة الأمريكية ممن يسموهم (الهنود الحمر) والعنصر الإفريقي الذي استخدم كعبيد وفي العمالة القسرية (سخره) في الحقول وبيوت الإقطاعيين والأغنياء.
دخل الكورد في فترات مبكرة بعد نزول الرسالة المحمدية فهذا الصحابي الكوردي كابان بن ميمون وابناءه من بعده ينشرون الدين الإسلامي بين ابناء قومهم بعد ان كانوا من اتباع الديانة الزادشتية ( المجوسية ) والمذكورة في القران الكريم.
تعتبر الإمارات الكوردية التي استمرت مدة ليست بالقصيرة وحتى ابان العهد العثماني من اهم الفترات التأريخية التي انعكست على مجمل الحياة السياسية والتوزيع الإداري والفكري في كوردستان ولها انعكاساتها لحد يومنا هذا.
المجتمع الإقطاعي الأبوي بقى حيا في تركيب المجتمع واحترام كبير القوم لا يزال سائدا في التركيب الثقافي العرفي للمجتمع الكوردستاني. تأريخيا نرى ان الكورد قد ذكروا منذ بدايات نزول الرسالة المحمدية فهذا القاضي شمس الدين ابن عباس والمشهور باسم (ابن خلكان ) الكوردي المولود ١٢١١ ميلادية في العاصمة اربيل صاحب كتاب وفيات الأعيان وانباء ابناء الزمان، احد الكورد الذين وثقوا الحياة الاجتماعية والأدبية . ذُكر اسم ( الأکراد ) في كتاب «صورة الأرض» للمؤرخ العربي ابن حوقل عام 977 ميلادية في خريطة توضح منطقة اقليم الجبال. ابان الحكم العثماني كانت المنطقة شبه مستقلة وبقيادة إقطاعية من العشائر. اما بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية، تقسمت أراضيها بين الدول التي تشكلت حديثًا وهي تركيا وايران والعراق و سوريا (معهدة سيفر، سيفر و معاهدة سايكس-بيكو) وايران وهاجر البعض ( الأكثرية من الايزيديين وتحت طائل الاضطهاد العثماني) الى ارمينيا الى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة مما جعل الكورد أقلية عرقية كبيرة دون كيان سياسي موحد يعيشون في وطنهم مقسمين بين هذه الدول.
تعرضت الحركات الكوردية التحررية للقمع من قبل تركيا والعراق وايران، وهي اي وجودهم نعمة لهم اذا كانت تلك الدول لها استراتيجيات بعيدة المدى حيث يخشى كل منهما احتمال استقلال كردستان رغم انها تدخل ضمن الحتمية التاريخية المستقبلية للشعوب في نيل حقوقها كما ذكرها ابن خلدون واخرون و حسب التصور المادي لمسار التاريخ.
يتضمن التاريخ الحديث للكورد العديد من عمليات الإبادة الجماعية والثورات والصراعات إلى جانب النزاعات الداخلية المسلحة المستمرة في جميع أجزائها. اليوم بعد استقرار الإقليم نجح أخيرا في إجراء انتخابات مثالية في المنطقة بأسرها وكانت من نتائجها فوز الحزب الديمقراطي الكوردستاني حيث شارك فيها العديد من الأحزاب السياسية. الملاحظ من نتائج الانتخابات التوزيع الفكري الانتمائي للناخبين وهي تعكس بصورة واخرى ما كان عليها ايام الإمارات الكوردية اي التوزيع المناطقي.
التاريخ لا يتكرر على الأقل ليس بنفس شكل وطريقة جريانها السابق والسنوات القادمة كفيلة لإعادة المسار التطوري والتنمية ونهضة الإقليم وشعبه الكوردستاني تحت قيادة حكومة رشيدة ومستقرة.
الاندلس ٢٠٢٤
مصدر الخارطة: د مايكل إيزادي، غلف/2000 جامعة كولومبيا