( الجزء الاول )
الدكتور محمد الربيعي
هذه المقالة تتبنى ما طرحته في كتاباتي السابقة وتعيد ما اكدت عليه في سياقات مختلفة. اسأل القراء الأوفياء الذين يتابعون أعمالي مسامحتي ازاء الالحاح في التأكيد، فالحاجة تدعوني لإعادة النظر في هذه القضايا بين الحين والآخر، نظرا لاستمرار تراجع جودة التعليم العالي وتجاهل مسألة الاصلاح، وغياب النقاش حوله بين الأكاديميين والتربويين
في ظل الأوضاع الراهنة بالعراق، أصبح من المألوف في بيئة متأرجحة تسودها ظواهر الفساد، أن نشهد تراجعا في مهام الجامعات بتنمية الإنسان. لم يعد الالتحاق بالجامعة مؤشرا للنجاح كما كان في السابق، بل تحول إلى مجرد مراحل انتظار للحصول على وظيفة قد لا تتصل بالمؤهلات الأكاديمية المكتسبة، مما افضى الى تدني القيمة الأخلاقية والمعنوية للشهادات الجامعية، والى سيطرة نوع من الأمية المخفية وتزايد الخسائر في العملية التعليمية، وبالتالي تعقيد مسيرة الفرد العراقي نحو الانخراط في مجتمع المعرفة.
عند تقييم حال التعليم العالي والجامعات، ومع الأخذ في الاعتبار تأثيرات العزلة والحصار الذاتي والهجرة والإرهاب وعدم الاستقرار، نجد واقعا مؤسفا يتسم بنقص الإمكانات البشرية والمادية ومن مشكلات عديدة وتحديات كبيرة تحد من فعاليته وتعيق تقدمه، وهذه التحديات مرتبطة بالوضع العام للمجتمع العراقي الذي يحمل عبءً تاريخيا يعيق تطوره نحو مجتمع المعرفة وإنتاجها، ومن ثم تحويل هذه المعرفة إلى قوة دافعة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. ومن ابرز هذه التحديات، تطوير قدرات الأفراد وأدائهم، وهو ما يقع ضمن مسؤوليات الجامعات التي يجب أن توفر الأدوات والأنظمة المستندة إلى تكنولوجيا المعرفة لمساعدة الانسان العراقي على دخول القرن الحادي والعشرين والمشاركة في انتاج المعرفة العالمية.
تطوير التعليم العالي يتجاوز الإصلاحات الطفيفة، إذ يستلزم تحولا شاملا وعميقا في نظام الجامعات والتعليم العالي. ينبغي ان يقوم هذا التحول على اسس علمية رصينة توازي المعايير الدولية المعتمدة في الأوساط الأكاديمية المتقدمة. يجب أن يتسم هذا الإصلاح بالنزاهة والموضوعية، وان يشمل إزالة العناصر البالية من النظام الحالي. الاصلاح يعني تفكيك القديم وبناء الجديد، ولإنجاز هذا الإصلاح، يجب الاستعداد لتحمل تبعاته السياسية والاجتماعية والمالية، التي قد تكون ثقيلة، وهذا يتطلب عزما وشجاعة، وبالطبع، فهما شاملا للواقع الأكاديمي العالمي ومتطلبات سوق العمل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
هل الأولوية لاصلاح التعليم أم الاصلاح السياسي؟
عند التطرق لموضوع إصلاح التعليم، يواجهنا البعض برفض إمكانية تحقيقه قبل إصلاح النظام السياسي. يرى هؤلاء ان أي محاولة لاصلاح التعليم دون تغيير النظام السياسي ستكون بمثابة “ترقيع” لن يحلّ المشكلة بشكل جوهري. في المقابل، يعتقد آخرون أن إصلاح التعليم ضروري لخلق جيل جديد قادر على المطالبة بالتغيير السياسي. فبرأيهم، لا يمكن بناء نظام سياسي ديمقراطي فعّال دون تعليم نوعي يُنشئ مواطنين فاعلين وواعين.
فما هو الصحيح؟ هل إصلاح التعليم يسبق إصلاح النظام السياسي أم العكس.
لا يمكن الجزم بأيهما يأتي أولا، الإصلاح السياسي او إصلاح التعليم، فهما مترابطان بشكل وثيق. فمن ناحية، يعد التعليم عنصرا أساسيا في أي إصلاح سياسي ناجح، حيث يوفّر للمواطنين المعرفة والمهارات اللازمة للمشاركة الفعالة في الحياة السياسية. من ناحية أخرى، لا يمكن إصلاح التعليم بشكل فعّال دون وجود بيئة سياسية داعمة. فغياب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية يعيق تطوير نظام تعليمي مبتكر وفعال.
باعتقادي ان إصلاح التعليم يمكن أن يأخذ الأولوية على الإصلاح السياسي في العراق. واستند في هذه الحجة إلى عدة نقاط رئيسية