أحمد عبد المجيد
اشعر بالتفاؤل، مع كل زيارة يقوم بها رئيس اقليم كردستان نيجرفان البارزاني الى بغداد، وينطلق تفاؤلي من مصدر واحد يتعلق به شخصياً. فقد رأيت فيه عراقياً كردياً مؤهلاً، للتعامل مع هذه المرحلة المحتشدة بالتحديات والمليئة بمواقف التوجس والقلق.
وفي زيارته الأخيرة الى بغداد، التي تزامنت مع جلسة البرلمان لانتخاب رئيس بديل، كرس البارزاني الاحساس عندي، بانه أصلح نموذج يمكن اعتماده في تسوية القضايا العالقة بين حكومتي المركز والاقليم، فالرجل مؤمن بان قدر الاكراد ان يتعايشوا مع الحالة الجغراتاريخية العراقية الممتدة لقرون، برغم ما تحفل به من انتكاسات وتداعيات وتناقضات. هو الأصلح لأنه لا يفرّق بين المتقاربين، ولا يرتفع أو يترفع على المتباعدين. انه يتعامل كفرد وكمجموعة، في الوقت ذاته، كفرد ينطلق من هوية وطنية، وكمجموع يفهم مغزى الشراكة، مصيراً ووجداناً وعملية قابلة للاخذ والرد، أي للتفاهم المطلق والمراجعة المحتملة، فقد دأب على التأسيس على المشتركات والافادة من المترادفات.
وكنت قد ارتأيت اختياره رئيساً اتحادياً للجمهورية، ابان أزمة الفراغ الدستوري الذي أعقب نهاية ولاية الرئيس السابق برهم صالح، لكن التوقعات والأمنيات لا تصل الى الهدف ولا تتحقق بالترجي دائماً، وغالباً ما يتنكر أحد أو فصيل أو كتلة أو ائتلاف، وتكون المحصلة خسارة وطنية عامة يتحمل وزرها الجميع، أقصد جميع المكونات. لقد فات أمد ذلك، لكني أشدد على ان تلك الأمنية أو الرؤية الممكنة، درس لن يتكرر، واذا تكرر فأن العراق ذو حظ عظيم.
والبارزاني فوق المناصب، وينأى بنفسه عن المغامرة والانفعال على وقعهما، ولو كان من النوع الذي يتصرف في علاقاته بضوئهما لقطع سبل التواصل مع حلفاء الأمس، وأسس لأحلاف مع اصفياء جدد، البارزاني ليس من النوع المنفعل، بل هو عقل استراتيجي تحكمه النتائج الكبرى، وليس المحصلات الصغرى أو المرحلية.
وفي سياق هذا التحليل، أجد ان الملفات العالقة، التي هي مصدر تهديد قوي للوجود العراقي، يجب وضعها بيد مثل هذا العقل، ورهنها لدى اصحاب مشاريع التعايش السلمي، وقبول واقعيات المصير المشترك. وقد يأتي يوم نرى فيه نيجرفان البارزاني يمسك بمهمة أو دور من هذا النوع، تمليه عليه مسؤوليته التاريخية، بوصفه كردياً عراقياً ضامناً للهوية، دون التفريط بمبدأ اخلاقي أو انتماء راسخ.
ان في شخصية نيجرفان البارزاني سمات وطنية جامعة، تابعنا معالمها في اكثر من مناسبة ونشاط شهدته كردستان، وعكسته لقاءاته الدورية مع أقطاب الحكومة الاتحادية، ولا تشذ زيارته الحالية الى بغداد عن هذا التوصيف. فما قلناه بحقه سابقاً نعيد تكراره بقوة، هذه المرة أيضاً. ولعل لقاءه برئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، أبرز دليل على ان قائداً ستراتيجياً مثله، مستعد لوضع النقاط على الحدود، ولا يهاب أو يتردد في معالجة المشكلات المستعصية، التي قد تكون صاعق تفجير للعلاقات الأخوية حيث توافقا على عدم تورط العراق باي نزاع بالمنطقة. وعبر مؤهلاته الاستباقية، ادرك ان عملية اختيار رئيس جديد للبرلمان قد تفجر خلافات كامنة تعيد الامور الى المربع الصفري. واجزم ان جولته على زعماء الائتلافات توحي بان جزءاً من زيارته الحالية يصب في هذا الهدف ولا سيما ان هناك مختصين بزرع الالغام بين المركز والاقليم.
وأظن ان نيجيرفان البارزاني يتفرد عن سواه، في انه ليس أسير الشحن الاعلامي والتقارير السوداء، التي ينطوي بعضها على تسريبات بقصد التسميم والنفاق السياسي.
وبالمناسبة فان هذه التقارير، قد تأتي عبر قنوات رفيعة، توهم بالحرص والمشورة الصالحة، فيما هي تهدف الى الايقاع بين الأخوة وجرهم الى المجهول. لكن البارزاني بمقدار ما يتحقق، فانه يراجع ويتفحّص ويبني قراراته وقناعاته على اساس الثقة والنيات الصادقة والمصالح العامة، واعزو ذلك الى بنائه الاجتماعي والنفسي، الذي مكن الاقليم من بلوغ الطفرة الانمائية الكبرى، في غضون عقد واحد من الزمان.
ومثلما رأيت في السابق، فاني اعزو نجاح التهدئة في أعقاب اي تصعيد بين الاقليم وبقية الارجاء، بما فيها الجوار، ما كان له أن يتحقق أو يستمر وربما ينمو، الا بوجود شخصية كالبارزاني، تتسم بالحكمة والنزعة التفاؤلية الصادقة، والاستعداد للحوار بإرادة التصالح وتجاوز الماضي، ونبذ فكرة التنافس على المغانم وتضييع حق المواطنين. وقد وجدت هذه النقطة، مثلاً، حاضرة في لقائه مع رئيس الجمهورية،حيث دعا الى تقريب وجهات النظر بين الاطراف السياسية وضمان حقوق جميع المواطنين بمن فيهم مواطنو الاقليم.
اننا نحتاج الى شخصية كنيجرفان البارزاني، تحمل في أربيل هموم مواطني بقية المحافظات، وتحمل في بغداد تطلعات مواطني الاقليم .. تطلعات المحبة والعيش الكريم.