د. توفيق رفيق آلتونچي
مباهج الحياة كثيرة وقد يكون قتل الوقت (وقت الفراغ) والتسلية البريئة عاصرتا الحياة البشرية على المعمورة منذ عصور سحيقة وربما وجد الإنسان في التسلية حاجة واخترع الكثير من الألعاب الرياضية العضلية والذهنية الفكرية والأدوات والآلات وصولا الى العاب الكومبيوتر وملحقاتها . لا تزال تلك الألعاب تزاول بين الحين والآخر ويعتبر المربون والمتخصصين في علوم التربية ان التعليم عن طريق العب هو أحسن طرق التعليم للأطفال ويتعلم الطفل من أقرانه بصورة سريعة و مذهلة قواعد أصعب الألعاب وحتى الشطرنج ( يقول العالم المربي جون دووي نحن نتعلم بالممارسة. إن عالمنا هو عالم عملي ومتغير باستمرار، ولا يمكننا أن نعرفه إلا من خلال العمل. أو بعبارة أخرى مألوفة جدًا لدرجة أن أي شخص لديه معرفة تربوية هامشية يسميها: التعلم بالممارسة). المادة تروي حوادث تشمل الفترة الى نهاية عام 1970. تشمل كذلك المنطقة الجغرافية المسماة كرميان ( المنطقة الحارة) بين نهري سيروان والزاب.
تتنوع أماكن إجراء الألعاب في المدينة مع خواص اللعبة والمناسبة فهناك ألعاب تجرى داخل البيوت وفي ليالي الشتاء الطويلة والباردة حيث يتجمع العديد من العوائل حول المنقلة او المدفئة (علاء الدين) في بيت كبير العائلة او الميسور منهم ويبدأ الرجال عادة بلعب الدومينو او الورق وينفصل اثنان منهم للعب النرد (الطاولة ) و هذه الألعاب تجرى في المقاهي كذلك الا ان لعب الورق علنيا غير مسموح في العراق وفي دول اخرى كثيرة في العالم ويفضل ان يكون في أماكن خاصة وصالات للعب القمار. وقد شاهدت الكثير من المقاهي التركية تسمح بلعب الورق . اعتقد ان لعب الورق علنيا ممنوع كذلك في معظم الدول الاسلامية و في إيران كذلك .
ومن جلسات البيت الى ألعاب الساحات العامة حيث يتجمع الرجال بعد إنهائهم لعملهم يلعبون سويا اما كولة كولة (دعبل – ملبن ) او كرة القدم او الدامه “النرد” وقد ياخذ احدهم النرد الى خارج البيت فيتجمع الرجال حوله وحول صاحبه المنافس له وتسمع هنا تلك المشاحنات والمراهنات والتعليقات اللاذعة قد تسبب احيانا منازعات بين اللاعبين وخصام بين محبين يستمر سنين عدة على الطريقة المبالغة فيها وهي طريقة مميزة في التعامل لدن العراقيين ، وقد يتفق عدد منهم للتوجه الى إحدى مقاهي كركوك الكثيرة كمقهى احمد اغا او المجيدية او جوت قهوة في الصوب الكبير من المدينة للتسامر وشرب الشاي او لعب الدومينو.
أما ألعاب الساحة والميدان فكانت موسمية حيث العاب الجيش تجرى في ساحة الجيش القريبة من مقر الفرقة العسكرية الثانية وتقوم النوادي الرياضية وهي كثيرة ( نادي سولاف ، نادي الثورة الرياضي ) باجراء التمارين المباريات في الساحات الملحقة بها او في ساحة ملعب شركة النفط العراقية حيث كانت معظم مباراتها الودية بين الفرق المحلية والقادمة من المدن العراقية الأخرى واحيانا الضيوف من الفرق الأجنبية، تجرى على هذه الساحة وقد شاهدت مباراة في بدايات الستينيات من القرن الماضي بين فريق كركوك والفريق الصيني وكان هناك العديد من اللاعبين المعروفين وقد يكون من المفيد ذكر عادل عبد الله و عمو بابا الذي تحول لاحقا الى لاعب في منتخب العراقي لكرة القدم ومدرب للفريق العراقي. اما النشاط الرياضي المدرسي فقد كان يجرى هنا وهناك الى اوائل الستينيات حيث تم بناء ساحة الإدارة المحلية في طريق بغداد وبدا المدارس بالتمرين وإجراء الاستعراضات للألعاب السويدية والعاب الساحة والميدان وكرة القدم.
فريق شركة نفط الشمال عام 1959
كما ذكرت سابقا كان لكل فئة ساحة يلعب بها وكانت تلكم الألعاب في مواسم معينة واحيانا عند حضور احد رؤساء الدولة العراقية حيث زار المدينة العديدين أمثال المرحوم ملك العراق فيصل الثاني والوصي عبد الاله وعبد السلام عارف واخيه المرحوم عبد الرحمن عارف.
الصيف وخاصة في ساعات المساء كان الكثيرين يلتقون في ساحات المدينة المتربة ويلعبون وقد تكون ازقة الضيقة لأحياء مدينة كركوك أماكن للعب الصبية الذين يحلمون بالملاعب والساحات كأقرانهم في احياء إطراف المدينة حيث الفضاء الشاسع لساحات اللعب والركض والصياح بأعلى الأصوات دون ازعاج الجار.
اما موسم العاب المقاهي فكان شهر رمضان المبارك حيث يتجمع الرجال في إحدى المقاهي كل في مقهى حيه ويلعبون “السني زرف” والمحيبس واللعبتان شبيهتان بعضهم ببعض وكان السمر يستمر الى فترة السحور حيث يتسحر الصائم ويصلي الفجر ثم ينام.
مع بداية العطلة الصيفية للمدارس كان التلاميذ يتوزعون في أزقة المدينة للتسلية ويكاد ان يكون المقاهي والسينمات( اطلس, خيام، علمين، الحمراء، صلاح الدين) الصيفي والشتوي المتنفس الوحيد في المدينة وكان هناك مسبحا في حديقة ام الربيعين واخر في شركة النفط خاصة بالعاملين في الشركة الى بداية السبعينات 1972 حيث تم تأميم النفط ففتح ابوابها لعامة الناس.
الأعياد الدينية والوطنية كانت ولا تزال مناسبة للعب والفرح والابتهاج ، في الأعياد كانت العديد من ساحات المدينة تتزين بالمراجيح و چرفلك (دولاب الهوا) والكثير من الدواب والعربات. هذه الملاعب تعج بالناس ويكون الطفل الذي ملئ جيوبه بالعيدية في اوج نشاطه لتبذير تلك النقود بالمقامرة به او بشراء الحلويات وركوب المراجيح.
لكبار السن ألعابهم الخاصة بهم والصبية وللشباب والصبايا فلكل لعبة الخاصة به. فالكبار مثلا يلعبون بنفسهم او يراهنون على صراع الحيوانات وخاصة الديك (الهراتي) ويلعبون الدومينو لگو أي النرد والدامه وكرة القدم. للصبايا وللصبيان العاب خاصة بهم فمثلا كان الصبيان يلعبون بالمصيادة لصيد الطيور ويسمى بالتركمانية ( قوش وران) و بالكوردية (برده لاستيق و قلماسن ) كتلك القصة التوراتية التي استعملها نبي الله داوود في صراعه مع جالوت .
واعيد استعماله حديثا من قبل أطفال الحجارة في فلسطين وربما استعمله نبي الله داود عليه السلام عند صراعه المميت مع جيش جالوت واعوانه وقتل جالوت العملاق.
اما لعبة (چولك چوبوغ) بالتركمانية و يقابلها (هلوكين) بالكوردية فهي لعبة تجرى عادة بين فريقين من الشباب يحمل كل واحد منهم عصا خاص به يضرب بها قطعة خشبية على هيئة عصفور اي مدبب في نهايتيه توضع مائلا بعض الشئ على الأرض يضرب اللاعب بعصاه احدى نهايات الخشبة رافعا القطعة الخشبية عاليا ومن ثم يضربها مرة اخرى وهي تحلق في السماء حيث يقاس مسافة رمي الخشبة بالعصا يكون من تمكن من رميها مسافة اكبر هو الفائز او فريقة.
قبل مجيئ المشروبات الغازية الحديثة الى العراق (الكولا ، مشن، تراوبي، كندا دراي، سبرايت والسفن والفانتا وغير ذلك من المشروبات الغازية) كان هناك نوع من المشروبات الغازية يسمى (سيفون) وكان الصبيان يتراهنون بينهم على طول المسافة التي يقطعها المشروب الغازي بعد رجه بقوة وفتحه.
الفقراء من الأطفال وخاصة الصبايا كانو يلعبون بالحجارة (بيش داش) حيث يحاولون بمهارة حمل خمس حجار منثورة على الأرض الواحد تلو الأخرى بعد ان يقذفون احدى الحجارات عاليا ويلتقطون الحجارة الاخرى من الأرض قبل نزول الحجارة الاخرى والذي عليهم التقاطها في الهواء كذلك. ويلعبون لعبة الختيله (گوز يما, چاو شاركى)خارج البيوت.
وكانوا يلعبون (الطرة والكتبة) بالعانه التي تحولت لاحقا في العهد الجمهوري الى الفلس بإضافة فلس الى العانة التي كانت تساوي اربع فلوس حيث كان هناك عملة نحاسية كبيرة بعض الشئ بقيمة فلسان في العهد الملكي واثنان منها كانتا تساويان عانة واحدة.
اما (المزراع) فكان من الخشب على شكل مخروطي ولكن صغير جدا ذو راس مدبب عادة يوضع بسمار مدبب في نهايته ويربط المتلاعب الخيط حوله بإحكام وبسحبة واحة يترك المزراع على الارض ليدور ومن يدور مزراعه فترة زمنية اطول يكون الرابح واحيانا علية ضرب مزراع صاحبه الموجود على الارض لينال بذلك نقاط إضافية او يحاول رفع المزراع الدائر بسرعة وسط كف يده.
ومن المزراع الى لعبة گولة گولة (دعبلة) وكذك لعبة كسر عظام الترقوة في الدجاج (لادس) للرهان على شئ معين او لمعرفة من الذي ينسى قبل الاخر ولعبة عظام فك جمجمة الخرفان يلعب الصبي به باعتبار شكله شبيه بالمسدس والطائرات الورقية والفرارات والمتمكن من الصبيان يقوم بجمع الطوابع والمراهنة او مبادلتها مع اقرانه من أصدقائه وكان المحل الوحيد في شارع الأوقاف لابو سامي ذلك المضمد النبيل المحب للطوابع وجامعها. المتمكن ماليا من الصبيان وكما ذكرت كان بامكانه شراء الكثير من صور الممثلين حيث كان يباع في عدة اماكن في الهواء الطلق اذكر منها ذلك البائع المتجول الذي اتخذ من احدى الجدران في احد ازقة شارع الاوقاف محلا له وكان بامكان الصبيان شراء مظروف العلكات بصور الممثلين الامريكان ايام كان (الفس برسلى وجون وين وكريكوري بيك واودي مورفي وفيفيان لي) من الشباب.
أفلام السينما اي الأشرطة كانت تقطع وتباع في رزم صغيرة يوضع عدد من الافلام الأبيض والأسود عادة فوق بعضها ويوضع فلم واحد او اكثر فوق الرزمة من النوع الجيد كما كانو يسمونه وهو فلم من الافلام المعروفة كهرقل الجبار او ماجستي او فريد الاطرش او عبد الحليم وربما طرزان بلحمه وشحمه “جيمس مولر”. كان الصبيان يلعبون لعبة” الطرة والكتبة” بالعانة ابو اربع فلوس وبدلها اي بعد الجمهورية تحولت قيمة تلك العملة الى خمس فلوس معدنية فهتف الناس” عاش الزعيم الي زيد العانة فلس” على تلك الأفلام او يضعون عدد منها في علبة يشعلون فيها النار ويسدونها بإحكام الى ان تصدر فرقعة عالية كالقنبلة.
الصبايا تلعبن عادة في بيوتهن او في الحوش اي الفناء الداخلي المرفق بالبيت واحيانا امام الدار ولا توجد الكثير من الألعاب الخاصة بهن فقد تقمن برسم مربعات على شكل سلم بالطباشير على الأرض او الشارع ويلعبن بقذف حجر املس على البيت الذي يردن حجزه لهن وتقمن بالقفز برجل واحد لكي يحصلن على ذلك البيت. تتجمع الصبية في حلقات رباعية او خماسية يدا بيد ويلعبن وقد يلعبن گوز يما – چاو شاركي (الختيلة ، الغميضه) اذ تقوم إحداهن بإخفاء نفسها بينما تقوم الأخريات بالوقوف امام الحائط وحجب نظرهن والعد الى رقم يتفق علية ثم يقمن بالبحث عن رفيقتهن يلعب الصبيان كذلك هذه اللعبة:
(ئانا پانا لبانه … وردي احمر شخصانه … ئان پان پف ).
هذا ما تنشده الفتاة عندما تختار بين كف صاحبتها المغلقتين لتجد النقود او المحبس المخفي ولم اتمكن من تفسير الجمل القصيرة ولا اعرف بأية لغة هي ما عدا كلمتي وردي واحمر جائتا بالعربية وربما هذه الكلمات بالسريانية التي لا أجيدها وقد تساءلت عن كنهها من الاخ الصديق الأديب “ميخائيل ممو ” وقد فسر العديد من تلك الكلمات السريانية المختلطة بالكلمات العربية بعيدا عن بعض التفسيرات العنصرية المتداولة على الانترنت.
كل تلكم الألعاب او لعب الكثير منها اختفت من ساحات وازقة كركوك بعد ان تحول الناس من الخروج الى الساحات واللعب والمؤانسة وذلك الحياة الاجتماعية الخصبة الى داخل دورهم فتراهم يتجمعون اليوم امام شاشات التلفزيون ويبنون الخيال تلو الخيال مع ما تقدمه لهم العديد من القنوات التلفزيونية من برامج وافلام .
تبقى تلك الحسرة الأزلية لفناء البيوت وساحات الأحياء نفتقدها اليوم من صياح الصغار وعراكهم ومشاكساتهم وتبقى تلك الأم الحنونة – مدينة كركوك بترابها وسمائها القرمزي، الأحمر تنير بزيتها مصابيح العالم لتبعد الظلمة والدجى من على أروح البشرية جمعاء.
الصور من الانترنت.
الأندلس
2023