علي حسين
يحفل العراق اليوم بمجموعة كبيرة من السياسيين يتحدثون باسم الوطنية ويحتكرون حديث الوطن والمواطنة ويصدرون الأحكام على هواهم. الوطنية عندهم كرسي يجلسون عليه ومنصب يستغلونه من أجل مصلحتهم الخاصة.
بينما كان هناك سياسيون أمثال، محمد سلمان حسن، الرجل الذي رفض ثلاثة عروض لمنصب وزاري قدمته له ثلاث حكومات متتالية، فكان ان أدى به الرفض الأخير إلى أن يصبح نزيلا لمستشفى الأمراض العقلية، هناك تعمد جلادوه تجهيز المجانين بالهراوات للقضاء عليه، وحين أفرج عنه كان قد أنهك فمات بعد فترة قصيرة في أوائل عام 1989.
لم يكن سهلا على طالب عراقي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي أن ينتمي إلى حركة اليسار يقف في وجه الحكومة، يصر ويعاند بالرغم من سحب جواز سفره وفصله من البعثة الدراسية في ان يكمل تحصيله العلمي لينال دكتوراه في الاقتصاد من أعرق جامعات العالم ” اكسفورد” ويصبح بعدها واحدا من أبرز العقول الاقتصادية في العالم، ولتضعه الظروف مرة أخرى في مواجهة مهمة شاقة، وهي مكان بارز في الطاقم الذي سيهندس السياسة الاقتصادية للجمهورية العراقية الفتية عام 1958.
كان من جيل الحب والعطاء لا جيل القسوة والفظاظة والطمع. صبي يمرض والده فيعمل لإعالة عائلته، يعمل العمل الوحيد الذي عثر عليه عامل بناء، يحمل الطابوق وينام على الاسمنت، وفي المساء كان الكتاب عالمه ودنياه. أي كتاب يمكن العثور عليه، ولم يعلم محمد سلمان نفسه العربية فحسب بل الإنكليزية والفرنسية والألمانية أيضاً. وكان يقتصد في شراء اي شيء إلا الكتاب.. ومضى يدرب نفسه كيف يصبح شيئا عظيما ينهض من ركام الفقر وأزقة اليأس. فكان النجاح حليفه وكانت الوظيفة والمنصب تسعى إليه لا يسعى إليها، يعود إلى الجامعة التي شهدته طالبا فقير الهيئة غني الفكر فيصبح أحد أعمدتها، لا أحد مثله عرف معنى الكفاح ولا أحد مثله عرف معنى الأمل. وظلت في كتاباته -برغم خشونة موضوعاتها- طراوة المعنى وحلاوة اللغة، ودقة المعلومة. كتابات نرى من خلالها أعماق الناس وتجليات الأوطان وروح المواطنة، ولم يعش لنفسه، بل قسم حياته بين الوطن والأحلام. العمل من اجل الواقع والحلم في المستقبل.
ترك الدكتور محمد سلمان حسن عشرات الدراسات والبحوث والمقالات، إضافة الى ترجماته وكتبه، ومحاضراته في المحافل الوطنية والدولية وكتاباته حول جوانب مختلفة من الاقتصاد العراقي.
كتب عالم الاقتصاد الراحل اوسكار لانكة في مديح محمد سلمان حسن:
“انني أقرأ كتاباته منذ سنوات بمتعة علمية، دائما اتعلم منه، دائما استدل على القضايا الإنسانية والفكرية في عالم مزدحم بالأفكار والصراعات”.
هذه المرة يذكرنا رجل بحجم محمد سلمان حسن بضآلة أحجامنا، وبان المواطنة ليست شهادة مزورة يحملها المرء ليعرضها في سوق المناصب، وأننا ندخل بنجاح عصر الفاشلين والكسالى الذين ما سعوا الى شيء إلا لخراب الأوطان.