التآخي : وكالات
الذكرى السنوية الرابعة والعشرين لوفاة إحدى أيقونات الفن المعاصر في الشرق الأوسط، والذي يجمع على محبة أغانيه الكورد والأتراك والعرب، المغني والملحن الكوردي أحمد كايا.
ينحدر كايا من مدينة ملاطيا بشمالي كوردستان (كوردستان تركيا)، المدينة التي غنى لها (خرجت من ملاطيا للطريق / الطرقات تحترق / روحي تحترق). نشأ كايا الابن الأصغر لعائلة من خمسة أفراد. والدته تركية من أرضروم ووالده، عامل النسيج، كوردي من أديمان. اهتم كايا بالموسيقى منذ صغره، فأثناء بدء دراسته الابتدائية في السادسة من عمره أهداه والده ساز (بزق)، أو كما يسميها الأتراك (باغلاما)، وهي تشبه البزق لكنها أكبر حجمًا، شاع استخدامها في تركيا منذ الدولة العثمانية واستمر إلى الآن. رافقه الساز منذ طفولته. عمل طفلاً أيام المدرسة في محل لبيع الكاسيت داخل المدينة، ثم عمل بعدها في جمع النقود من ركاب الباصات الصغيرة التي تتنقل داخل أحياء المدينة والتي يطلق عليها اسم (دولموش). استمر ذلك إلى أن أتيحت له أول فرصة لإشباع جزء من شغفه بالوقوف أمام الجمهور عندما كان في التاسعة من عمره، حين وقف ليغني أمام عمال من أصدقاء والده في مصنع النسيج كانوا يحتفلون بالعيد في منزل والد كايا.
انتقلت عائلة كايا إلى إسطنبول في عام 1972 بحثًا عن العمل واستقرت في منطقة كوجا – مصطفى باشا، بعدها اضطر أحمد لترك الدراسة والعمل بائعًا متجولًا في المدينة الكبيرة، التي بدأ بالتعرف عليها ومحاولة التأقلم مع تناقضاتها. شكّل له الخروج من قرية صغيرة إلى مدينة كبيرة تقع في قارتين صدمة ثقافية واجتماعية صعب عليه التأقلم معها بداية الأمر، إذ فرضت عليه تحديًا كبيرًا مثل التأقلم مع اختلاف اللهجة بين ملاطيا في الشرق واسطنبول في الغرب. ذكر صعوبة التأقلم مرة فقال: «في إحدى المرات ذهبت للخياط وطلبت منه تفصيل بنطال مشابه للذي يرتديه أصحابه في المدينة كي أشعر أنني واحد منهم»، لكن شعور الغربة ظل يحاصره إلى أن بدأ كايا بالاندماج في المدينة شيئاً فشيئًا إثر عمله كسائق تاكسي.
مدخله إلى الفن
في السادسة عشرة من عمره أُلقي القبض على كايا أثناء توزيعه لمنشورات ذات طابع سياسي صادرة عن جمعية الشعب الموحد المعارضة للحكومة وقتها. أُفرج عنه وأكمل نشاطه السياسي مع الجمعية التي التقى في إحدى فعالياتها بجامعة البوسفور بروحي سو أحد فناني الموسيقى الكوردية. كان كايا مولعًا به ويناديه (روحي أسطة) أو المعلم روحي.
عزف كايا أمامه على الباغلاما أغنيته الشهيرة «محسوس محل»، عزفها بطريقته التي لا تشبه غيره، والتي خلقها بنفسه وتعلّمها وحده منذ أن أهداه والده سازه الأول. أسلوبه هذا تحول لاحقًا إلى مدرسة خاصة، لكن يومها أغضبت طريقته هذه المعلم فقاطعه قائلًا: «لا يُعزف البزق كرفس الحصان، لا تتشاجر مع البزق، اعشقه». هنا ضاعت فرصة بناء علاقة بين كايا ومعلّمه الروحي، وبات بعدها كلّما عزف بطريقته يردد أمام أصحابه قوله: «والبزق يُعزف هكذا أيضًا».
تعرف أحمد كايا على أمينة كايا خلال عمله في فرقة الأوركسترا الموسيقية العسكرية خلال خدمته العسكرية عام 1978 في شبه جزيرة غاليبولي التركية، تزوجها عام 1982 وأنجبا ابنتهم الأولى شيدام. بعد عودته من الجيش عانى كايا من البطالة، ما دفع زوجته إلى هجره، ليتزوج ثانيةً من غولتن خيال أوغلو، التي تعرف من خلالها على أخيها الشاعر يوسف خيال أوغلو، والذي كان بدوره علامة فارقة في حياة كايا الفنية، إذ لحّن الكثير من أشعاره وغناها.
أصدر أحمد كايا أكثر من عشرين ألبومًا، بدأ بتسجيلها عندما أنشأ وزوجته الثانية استوديو إنتاج في إسطنبول أسموه GAK وهي الأحرف الأولى من اسميهما، وأصبح مقرًا لإنتاج أغانيه، ثم كانت بعدها بداية العمل بينه وبين يوسف خيال أوغلو في ألبوم بعنوان (الديمقراطي المُتعَب). ليصدر في عام 1985 ألبومه الأول (لا تبك يا صغيري) الذي احتل قائمة الأكثر مبيعًا في تركيا، لكن الرقابة تدخلت وجُمع الألبوم من السوق ومُنع من التوزيع بسبب محتواه السياسي الداعم للقضية الكوردية.
بيع أكثر من مليونين ونصف نسخة من ألبوم أحمد كايا الرابع عشر، الذي احتوى على أغنية (نداء الحرية) التي غنى فيها «أخوك يومًا ما سيعود من الجبل احتضنه يا صغيري» وفسرت على أنه هناك علاقة بين الجبل وحزب العمال الكوردستاني المصنف إرهابيًا والمحظور في تركيا، وبسبب هذه الكلمات تم مرة أخرى جمع ألبومه من السوق ومُنع من إقامة الحفلات. ذاع بعدها صيته بين الناس الذين أحبوه وانتموا إليه وأصبح مغني الشعب على اختلاف أعراقهم وقومياتهم.
الحفل والعقاب
في فبراير/ شباط 1999 نظمت جمعية صحفيي المجلات حفلًا لتوزيع الجوائز على الفنانين، مُنح فيه أحمد كايا جائزة أفضل مغني للعام.
في كلمته، توجه كايا بالشكر للشعب التركي ومنظمات حقوق الإنسان والصحفيين القائمين على الحفل، وصرح مبتسمًا أن ألبومه القادم سيحتوي على أغنية كوردية واحدة يغنيها بلغته الأم، وسيتم تصويرها لتبث على محطات التلفاز، ثم أضاف: «إذا منعوا الأغنية، فلا أدري كيف سيحاسبون أمام الرأي العام التركي؟» ما أن انتهى من كلمته حتى بدأ الحضور من الفنانين الأتراك بشتمه وإلقاء الملاعق عليه واتهامه بالانفصالية، والمطالبة بمحاكمته.
بعدها، اتُهِمَ أحمد كايا بإهانة الوطن، ورُفعت ضده العديد من الدعاوى القضائية في محاكم اسطنبول. زوجته غولتن قالت: «بلحظة واحدة تحول أولئك الأنيقون والأنيقات إلى بهائم، منهم من بدأ برمي الملاعق والشوك وإطلاق الإهانات، خلال خمس دقائق تغير كل شيء، تغير على نحو 180 درجة، كان تحولًا لا يصدق».
أضافت زوجته في لقاء مع بي بي سي التركية: «تم تمزيق صور أحمد كايا وتكسير أشرطته وإرجاع ألبوماته وتوقيف بيعها، هي عملية إخفاء عن الخارطة. كانت تأتينا رسائل عبر الفاكس مليئة بالتهديدات بشكل لا يصدق، رسائل ومكاتيب تهديد تركت في علبة البريد الخاصة بنا، كتب في إحدى الرسائل: كيف تريد أن تموت؟ خنقاً بالسلاسل الحديدية أم بطريقة أخرى؟».
مهّدت هذه الحادثة لخروج أحمد كايا من تركيا إلى فرنسا في يونينو/ حزيران 1999. صدر ضده حكم بالسجن ثلاث سنوات وتسع شهور أشغال شاقة، لكن لم ينفذ الحكم لرحيله خارج البلاد. في ذات العام سافر إلى ألمانيا وفي مدينة ميونيخ، شارك في حفلة شعارها «سلام ديمقراطية وحرية».
الموت قهرًا
توفي أحمد كايا في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2000، في الأربعين من عمره مقهورًا في منفاه الاختياري، حيث قيل إنه تعرّض لنوبة قلبية أنهت مشواره، كان ذلك في باريس أثناء تحضيره لألبومه الأخير (كروان) الذي احتوى على الأغنية الكوردية سابقة الذكر، تقول كلمات الأغنية «حتما سوف أعود يومًا»، غناها بقلب محطم وحزن شديد.
وإلى جانب الكورد، اليوم لا أحد يؤثر على الأتراك بصوته مثلما يفعل أحمد كايا. يستمع إليه الجميع في تركيا، قد يختلف معه البعض سياسيًا وفكريًا لكن لا أحد يختلف على صوته وانتقائه للأغنيات التي تخص جميع المواطنين في تركيا بمختلف أعراقهم وانتماءاتهم السياسية.
بعد وفاة أحمد كايا بسنوات بدأ بعض الفنانين الأتراك بالاعتذار عمّا بدر منهم تجاه كايا ، وزار بعضهم ضريحه في مقبرة Père Lachaise في باريس، كما كرمته الحكومة التركية برئاسة حزب العدالة والتنمية بعد ثلاثة عشر سنة من وفاته بمنحه جائزة رئاسة الجمهورية للفن والثقافة على الدور الذي لعبته موسيقاه في توحيد الآراء المختلفة. بعد أن مات مقهورًا وحيدًا عاد صوت الخلق يتردد في دروب اسطنبول، عاد ليسكن المقاهي وقلوب الناس ولحظات حزنهم وأملهم، عاد إلى حيث ينتمي، إلى القلب