فريد الله ويردي .. كفاح وعبقرية وريادة في الموسيقى العالمية

 

متابعات التآخي

لا يماري أحد في ان الموسيقار الراحل فريد الله ويردي كان من أبرز المؤلفين الموسيقيين العراقيين الذين عملوا على إنهاض الثقافة الموسيقية العراقية المعاصرة. وقد احتل مكانه في طليعة الحركة الموسيقية الكلاسيكية في العراق. وكان أول مؤلف موسيقي، وربما الفنان المعاصر الوحيد، الذي حاول بالرغم من انظمة الطغيان في العراق ان يتجاوز بإرادته الابداعية حدود وطنه وان يقدم نتاجاته على الساحة الموسيقية العالمية. فعُرفت مؤلفاته في الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وروسيا وسويسرا وسورية ومصر والعديد من بلدان الشرق الاوسط في الحفلات الموسيقية وبرامج الاذاعة والتلفزيون.

 

 

لقد كرس فريد الله ويردي جل تأملاته وجهده للبحث وكشف الاساليب المميزة للموسيقى المعاصرة بغية ليس ابداع لغته الموسيقية الخاصة به فقط، بل لاستحداث قاعدة يمكن ان تقوم عليها التوليفات الممكنة بين منظومتين مختلفتين ومجموعتي تقاليد موسيقية متباينة هما: الاشكال الموسيقية في الحضارة العربية – الاسلامية والاساليب المميزة للموسيقى المعاصرة العالمية.

كما ان أعماله الموسيقية تمثل محاولة لاكتشاف العناصر الجمالية والثروة الموسيقية الكامنة في الاوزان المستخدمة في مقام (الصبا) أشهر المقامات العراقية، وبعض الابعاد النصية والإيقاعية.

وتمتد جذور موسيقى فريد الله ويردي عميقا في تربة الفولكلور الشعبي والتقاليد الكلاسيكية. وقال مرة “.. إنني أصبو الى أن أنجز ولو مرة واحدة عملا يمثل موسيقى عراقية معاصرة جديدة – أي ابداع شكل ذي بنية فوقية يقوم على أسس جمالية وموسيقية تتجاوز حدود السمات الوطنية.

وأستخدم فريد في اعماله الموسيقية المقام الاثني عشري مقترنا بمقام الربع (شكل اللحن العربي القديم)، وفترات السكون ذات الوظائف البنيوية و”دق الخشب” لاستحداث صوتين مختلفين في القرع (محاكاة القرع في الآلات الضاربة كالطبل والدنبك).

 

 

فريد الله ويردي يحاكي “الدنبك” لاستحداث أصوات جديدة في الآلات الضاربة

وكان فريد الله يتمتع بحس فطري في التأليف الموسيقي للآلات الوترية، لأنه تعلم العزف منذ البداية على الكمان والكمان الكبير(الفايولا)، وشارك في العزف مع رباعي الوتريات في بغداد. ولابد من الإشارة إلى أنه بينما كان يقوم بدراساته النظرية والتطبيقية في الموسيقى واصل التعليم الجامعي في كلية الحقوق التي تخرج منها في عام 1948. وكان يتقن عدة لغات (العربية والفرنسية والانجليزية والروسية والتركية والكوردية). وقد نمّا هذا لديه الحس المنطقي الذي ساعده لاحقا في تشكيل افكاره الجمالية في الموسيقى العالمية عموما وفي تقاليد الموسيقى التقليدية العراقية بشكل خاص.

وشارك فريد الله ويردي في العديد من المحافل الموسيقية الدولية في موسكو وباريس ووارشو والقاهرة والما-آتا ودوشنبه حيث نوقشت قضايا الموسيقى التقليدية (المحلية) والمعاصرة. كما ألقى المحاضرات حول مختلف القضايا القضايا الموسيقية وبالأخص تلك المتعلقة بمشاكل التوليف بين مختلف الثقافات الموسيقية والتعددية الثقافية والأممية ذات السمات المميزة من أجل تشجيع عملية التفاهم المتبادل بين الافراد الذي ينتمون الى مختلف الحضارات.

فريد الله ويردي مارس التعليم في العزف على مختلف الآلات الموسيقية، ومارس التعليم في العزف على الفايولا والكمان والنظريات الموسيقية طوال أكثر من خمسين عاماً. وكان يحب مهنة التعليم وواصل اعطاء الدروس حتى قبل خمسة أيام من وفاته. لقد كان فريد الله ويردي شخصية ذات مجال اهتمامات واسعة وارتبط بعلاقات صداقة مع كثيرين. وشمل مجال اهتمامه الفلسفة والدين والتأريخ والأدب والشعر والعلم والفيزياء والطب والفنون التشكيلية والطب البديل وهلمجرا، وكان يجد سهولة في التعامل مع الافراد من مختلف المستويات.

ان فريد كان يقف متفرداً، ولم يرغب في التنازل عن مبادئه والتعاون مع النظام لذا كانت حياته محفوفة بالصعاب دوما. وحاول النظام تحطيم مثل هؤلاء الاشخاص معنويا وجعلهم مثل الآخرين الذين يشعرون بالغيرة منهم. لقد كان رجلا واسع الاطلاع، كما كان لا يهادن في كل ما يتعلق بالمعايير الفنية، ويحمل افكارا انسانية عالية ويتمتع باستقلالية روحية وبالشعور بالكرامة الانسانية. لقد كان ويردي صاحب موهبة ثرة وموسيقيا جديرا بالاحترام. وكان أيضا عطوفا وكريما وودودا ومثقفا في سلوكه ومتواضعا للغاية كرس نفسه لرعاية أسرته واصدقائه ولم يكن يهتم بالمال وطلب الشهرة.

 

 

 

وحدث في عام 1944 ان وجدت العائلة الاستقرار في بغداد بعد سنوات من التنقل في مختلف أرجاء البلاد. ووجد فريد عندئذ الفرصة لدراسة الموسيقى على أساس أكاديمي تحت اشراف اساتذة اوروبيين في معهد الفنون الجميلة الذي أفتتح لتوه. فصار يدرس أصول العزف على الكمان مع البروفيسور ساندو البو (وهو روماني من مريدي كودالي) في آن واحد مع دراسة القانون في كلية الحقوق في بغداد. واعترف الجميع آنذاك بأنه طالب موهوب جداً في الموسيقى. وقال استاذه ساندو البو عنه:”…انه الموهبة الوحيدة في العراق في مجال التأليف الموسيقي”. وبعد التخرج من كلية الحقوق في عام 1948 كرس فريد نفسه كليا الى الموسيقى وتطويرها في العراق.

في فترة 1950-1952 حاز فريد الله ويردي على زمالة للدراسة في باريس في قسم الدراسات النظرية العليا تحت اشراف البروفيسور هنري شالان والبروفيسور فرانسيس- بول ديميلاك. وفي وقت لاحق قال فريد: (لقد أثر في كثيرا تكنيك ميسيا الموسيقي) واستوعب واستخدم بشكل مبدع انجازات الاتجاهات الاسلوبية الجديدة ودرس بإمعان موسيقى الملحنين الذين بوسعه التعلم منهم. ونظراً لمثابرته وموقفه من قضايا الفن بلا هوادة استوعب بسرعة كل ما هو تقدمي في عالم الموسيقى.

وفي عام 1951 ألف أول مقطوعة له هي روندو للجيتار والكلارنيت التي عزفت في العام نفسه في بغداد. وفي عام 1952 عاد فريد الى بغداد حيث مارس تدريس نظرية الموسيقى والهارموني في معهد الفنون الجميلة وشكل مع زملاء له جمعية فلهارموني بغداد كما انضم الى مجموعة موسيقى الحجرة.

في ديسمبر (كانون الاول) عام 1959 سافر فريد الله ويردي الى موسكو لمواصلة تعليمه في كونسرفتوار تشايكوفسكي. ودرس في قسم نظريات الموسيقى والتأليف باختصاص “التأليف” تحت إشراف البروفيسور ي .غولوبيف .

في عام 1963 وقع الانقلاب العسكري الدموي في العراق وحكم على فريد الله ويردي غيابيا بالإعدام بسبب تأليفه “المنصورية” التي حظيت بالشعبية في ايام الحكومة السابقة. واعتبرته السلطات “شيوعيا” بسبب شخصيته المستقلة وافكاره المتحررة. واحتجز جواز سفره وألغيت زمالته. وفيما بعد اضطر الى النزوح الى الولايات المتحدة حيث عاش مع افراد أسرته. وهناك واصل دراسته على حسابه الخاص تحت اشراف البروفيسور دونالد لوبيرت في كلية هنتر في جامعة سيتي في نيويورك، وحصل على شهادة الماجستير في التأليف الموسيقى. وأكد البروفيسور دونالد روبرت تقديره لعمله لدى التخرج بأنه: “.. قررت لجنة التخرج في القسم بأن هذا أحد أفضل الاعمال المقدمة الى اللجنة “.

وبعد التخرج عمل مدرساً في كلية ستيت جلاسبورو في نيوجيرسي. وفي عام 1968 صدر في العراق عفو عام عن المنفيين السياسيين وتملكت فيردي الله ويردي البهجة والحماس للعودة الى بغداد لكي يقدم معارفه التي يحتاجها الجيل الثاني من الموسيقيين العراقيين. وأتاح تشكيل الائتلاف الحاكم الذي ضم الديمقراطيين والقوميين والشيوعيين وبقية الاحزاب استعادة موقعه السابق كمدرس موسيقى في معهد الفنون الجميلة، ولكن بنفس الراتب الذي كان يتلقاه في عام 1959 بدون أية تعويضات لقاء ما حققه من نجاحات في الدراسات.

ووجد لدى عودته الى بغداد في اكتوبر (تشرين الاول) عام 1968 مشهدا محزنا في مجال الموسيقى. فقد حلت الاوركسترا السيمفونية وغادر الكثير من الموسيقيين الواعدين البلاد الى الخارج. وكانت الفرصة الوحيدة أمام الموسيقيين للحصول على عمل هي التدريس في معهد الفنون الجميلة. وحاول فريد إحياء اوركسترا موسيقى الحجرة لكنه وجد الموسيقيين محبطين بسبب سنوات القمع وعدم ممارسة المهنة لقلة الوقت حيث مارس أغلبهم اعمالا أخرى لا علاقة لها بالموسيقى.

كما علم ان انشودة “المنصورية” ما زالت ممنوعة بالرغم من صدور العفو العام، وأضفى حزب البعثة صبغة سياسية على التأليف الموسيقي. ولم يبد المسؤولون اهتماما كبيرا به. وعرض عليه أحد منظري حزب البعث المعروفين ان يؤلف نشيدا وطنيا جديدا مقابل منحه “كارت بلانش” في مجال الموسيقى وتولى منصب رئيس قسم الموسيقى في المعهد. لكنه رفض وقال انه لا يهتم بالمنصب ويود ان يمارس التدريس فقط وما دام الحظر ساريا على “المنصورية” فإنه لن يؤلف النشيد الوطني.

في عام 1970 أسس فريد الله ويردي المركز الموسيقي التقليدي العراقي في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون في بغداد وجرى خلال عامين (1972- 1974) مسح شامل وتسجيل الموسيقى التقليدية والشعبية في جميع انحاء العراق (العربية والكوردية والاشورية والتركمانية وغيرها)، قبل ان تنشب الحرب ضد الشعب الكوردي والحرب الايرانية – العراقية وحرب الخليج التي أدت الى أبادة ونزوح الناس من المناطق الريفية الغنية بالفولكلور الشعبي.

في عام 1972 تأسست مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد. وكان فريد الله ويردي عضوا في اللجنة التي ناقشت مستقبل المدرسة وتلامذتها.

في عام 1972 طلب شفيق الكمالي (وزير الثقافة آنذاك، وأعدم فيما بعد) من فريد الله ويردي ان يلحن النشيد الوطني باستخدام قصيدة من اشعاره. وحاول اغراءه بالمال والمنصب لكن فريد رفض ذلك.

ومنذ ذلك الحين جرت ملاحقة فريد الله ويردي باستمرار. ولم يسمح له بالسفر ووضع بريده وهاتفه تحت الرقابة، ولم يكن باستطاعته الاتصال بأصدقائه من الموسيقيين في الخارج. وفي عام 1981 أصيب فريد بنوبة قلبية وأحال نفسه الى التقاعد بصعوبة. وصار في هذه الفترة يبحث في العلاقة بين الموسيقى والدماغ. علما انه عمل في الفترة من 1976 وحتى 1981 في تقديم دروس في التذوق الموسيقي الى طلاب الدراما في اكاديمية والفنون الجميلة وجامعة بغداد، ووضع الأساس لافتتاح قسم للموسيقى في الجامعة.

في عام 1991 هرب فريد الله ويردي من العراق الى الاردن بعد حرب الخليج حين حاول النظام إرغامه على تبجيل ” النصر في حرب الخيلج بموسيقاه.

عمل فريد الله ويردي طوال عشرة أعوام في تدريس الموسيقى في جامعة اليرموك في أربد لكن الاردن لم يكن مكانا آمنا له لأن عملاء النظام العراقي كانوا ينشطون هناك أيضا. واستقر به المقام في ايرلندا في عام 2002.

أحب ايرلندا وشعبها الذي احتضنه وعائلته وعامله باحترام. وتمتع فريد الله ويردي بعضوية مركز الموسيقى المعاصرة في ايرلندا وشارك في نشاطاته. وواصل التأليف الموسيقي وكتب دراسة عن قسم الموسيقى في العراق ودراسة عن تأثير الموسيقى في الدماغ وطابع بنية الانسان واخلاقياته.

اقترن فريد الله بالفتاة الروسية ميلا ( لودميلا)، خلال وجوده في موسكو قبل 46 عاما ورزق بثلاثة اطفال هم الابن ليث والابنتان سوزان ومريم.

غيب الموت الانسان والفنان والمؤلف الموسيقي العراقي العالمي فريد الله ويردي في مدينة دبلن في ايرلندا في 1/2/2007 عن عمر ناهز الثمانين عاما. مات جسدا لكن تسابق روحه نجوم سماء الابداع العراقي الخالد.

 

 

 

قد يعجبك ايضا