مسيرة البحث عن الروح في نصلُ كركوك – المدينةُ الشفرة جماعة كركوك الادبية

 

د. توفيق رفيق التونچي

 

الجزء الخامس

محي الدين زه نكنه

ولد الاديب الراحل محيي الدين زنكنه عام 1940  بمحلة “شاطرلو” في مدينة كركوك. أكمل دراسته الابتدائية سنة 1952 في أبتدائية الامير عبد الاله في كركوك. أكمل دراسته في متوسطة ” الغربية ” – كركوك سنة 1955 وكنت قد درست فيها مع الشاعران صلاح فائق و سركون بولص ومن الجدير بالذكر ان الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد  كان مدرسا للعربية في هذه المدرسة.  انهى دراسته الثانوية سنة 1958 في ثانوية كركوك المركزيةوبعده بعام نشر اول عمل مسرحي له (مسرحية احتفال في نيسان) في جريدة صوت الطلبة. تخرج في جامعة بغداد – قسم اللغة العربية سنة 1962باشر مدرساً للَغة العربية في خانقين 1964. 1969 ثم انتقل الى  مدينة بعقوبة حيث عاش فيها ما يقارب ال37 عاماً.  طبعت اول مسرحية له في العراق ( مسرحية السر – مطبعة الغريري – النجف 1968).وافاه الاجل المحتوم في مدينة السليمانية21 -8-2010 . خلال فترة حياته الابداعية نشر الكثير من المقالات الادبية و النقدية و الدراسات و كتب العديد من القصص و القصص القصيرة و الروايات و الكثير من المسرحيات نشرت بعض من اعماله خارج العراق” هُّم – أو – ويبقى الحب علامة ” وهي من منشورات أتحاد الكتاب العرب – دمشق . و ترجمت الكثير الى اللغة الكردية و مثلت مسرحياته في معظم محافظات العراق و العديد من العواصم و المدن العربية عام 1980 قدمت له اول مسرحية خارج العراق وكانت مسرحية ألسؤال و عرضت في الكويت وتلتها عروض اخرى في دول عربية اخرى وايضا في دول الاوربية كما عرضت مسرحيته ” اليمامة ” على مسارح بردواي الامريكية حصلت أعماله على العديد من الجوائز و الشهادات التقديرية وشاركت في العديد من المهرجانات سواءاً في العراق او خارجه. .كان قد بدأ اولى كتاباته خلال 1956، لم تنشر في حينها  ثم نشرت بعضا منها ضمن الدراسة التي أعدها الدكتور فاضل التميمي ضمن كتابه ” بواكير محي الدين زه نكه نه القصصية ” الصادر في 2007 – السليمانية وهو من سلسلة كتب دار سردم للطباعة و النشر .

 

الساعات

تودع تنهداتها

السواحل الهادئة

العواصف تجهل هذا

الينابيع تجهل هذا

الفراشات تجهل هذا

الغابات تجهل هذا

والمطر؟ إنه تفاحة الخوف

إنه مزامير السهر

إنه العدم

إنه ينابيع مستقبلنا

لذا، فهو يعرف، لأنه

الصدى الأبدي لسواحل الساعات.

 

 

 

الشاعر جان دمو

 

يوخنا دمو يوسف (جان دمو)  من مواليد مدينة كركوك عام 1942، لعائلة فقيرة . عرف منذ شبابه بالميل إلى القراءة والكتابة، فضلاً عن ترجماته من الانكليزية إلى العربية وبالعكس . اهتم بالترجمة بشكل خاص، اضافة الى كتابته قصيدة النثر بشكل مبكر في العراق. ويعتبره البعض ظاهرة ثقافية بحد ذاته بسبب طبيعة حياته ونمط واسلوب معيشته. وكان دمو قد اعتقل في العراق مع مجموعة من الكتاب بتهمة «تنظيم حركة سرية». وما يمكن ملاحظته على كتاباته هو، اطلاعه الواسع على الأدب العالمي والانكليزي خاصة، والذي كان واضحاً على نصوصه. لقد كان جان دمو غزير الإنتاج شعراً وكتابة ً وترجمةً، إلا أن ما نلاحظه هو انه كان مقلاَ في النشر فهو الشاعر الصامت الهادئ والبعيد عن أضواء عدسة الكاميرات والمهرجانات الثقافية، حيث لم تصدر له طوال حياته سوى مجموعة واحدة بعنوان (أسمال) طبعت وصدرت عام 1993 منتصف الستينيات، نشر دمّو، قصيدة في مجلة عراقية، كانت الأغرب وأثارت الكثير من اللغط حولها في الوسط الثقافي آنذاك. كان عنوان القصيدة “الجندي الذي سافر في القطار ونسي أن يقول للبروفيسور نعم” لم يَصدر لدمّو في حياته كتاباً. فقد وُلدت مجموعته اليتيمة “أسمال” (1993) على يد بعض من أصدقاء الشاعر، وجمع حسين علي يونس، الذي شارك دمّو حياة الصعلكة في التسعينيات، كل ما أنتجه البوهيمي من شعر وترجمة في كتاب “جان دمّو: التركة والحياة” والذي صدر عن دار “نون” بالرغم مما لاقاه الشاعر في حياته إلا انه كان شاعراً يكتب للحياة والحب والأمل، بشعر يمتلك جمالية خاصة:

نهر اللحظات يتقرفص في حديقة الزهور

الأفواه مجمدة .

الأفواه خط طويل من العذاب اليأس.

ما يشدنا إلى البعض، إلى الهواء إلى الأصفار، هو جسامة الماضي

أن نضحك ثانية وثانية

أن نستفز الحاكمين

أن نرفض

بيان شعري رحل الشاعر جان دمو سنة 2003 في أستراليا بالسكتة القلبية .

الاستاذ يوسف الحيدري

 

للبيئة اثر كبير على ابداع الادبي والفني ولكي نفهم طبيعة الانتاج الادبي علينا معرفة حثايا تفاصيل الحياة اليومية والبيئة التي عاشها الاديب او الفنان. ان يوسف الحيدري احد رواد هذه الجماعة الا انه بقى في سلك التعليم 27 عاما ولم يكتب الا القصة القصيرة التي استمد شخصياتها من الواقع ويعتبر احد المجدددين في القصة العراقية.

ان التصورات الأولية البديهية وما يسمى بالنظرة النمطية للأمور خاطئة اذا لم يتم دراسة المكان والحدث وانعكاساتها على مضمون الأدب الإبداعي. إننا اليوم نرى الأمور وببساطة تحت مجهر معلوماتنا وعلومنا الحديثة. أما حوادث الماضي فيعتمد كليا على ما كان جاريا ومعروفا ومقبولا في تلك الفترة الزمنية من التاريخ أليس التاريخ أضحوكة لو تكررت حوادثها؟.

 

المكان مرتبط بالذاكرة وبالذكرى وعندما يأتي الكاتب على ذكر مكان معين هو في واقع الأمر إنما يعني “الموقف” او الحدث الذي يرافق المكان. قد يكون موقفا عاطفيا او حدثا جللا او سعيدا وقد يكون مجرد بيت صديق عزيز او بيت الأجداد. اما الموقف المعين فيرتبط عضويا مع الحدث ولا يتجزأ عن الزمن أي زمن حدوثه. قد يكون مجرد صورة شكلية معينة كعمارة احد الأبنية او الدور . بالطبع نرى ان الحنين والشوق الى تلك الأماكن يفعل فعلته في فؤاد الكاتب فيقوم بتصويرها مع بعض المغالاة كما كان شاعرنا بدر شاكر السياب في وصفه لقريته ، جيكور والكلمة معربة من الفارسية جوي كور اي الجدول العالي ، ولجدول الماء الجاري “بويب”. هذا النموذج يتكرر حتى في أدب الشعراء الكبار في وصف الأماكن بمغالاة ومبالغة وإضافة صفات ونعوت غير واقعية وهناك في الأدب العربي التقليدي ما قبل الإسلام وبعده نماذج رائعة على وصف مكان الحبيبة او مكان لقاء الحبيبة او حتى ديارها بعد رحيل القوم .

 

 

طيور أمسيات الأربعاء البيضاء

تطارد في شهر كانون أيامي المحطمة

فوق منارة (داقوق)

تحط الطيور

وتطير

لا يهمني ذلك البته

ولا يهمني هذا النشيد المفرط

في العواطف

هل تنام أشجار الصفصاف

أم تتجول، لا أعرف ؟

لماذا لا يعود جاري

إلى عشه

الذي غادره قبل مائة عام ؟

لماذا لا يمتد الزمن إلى مواسم العشق ؟

ولم لا يختصر عمر الأحزان ؟

أين هو ذاك الذي كان في كل مكان

من يدري؟

 

كركوك

1936

 

قحطان الهرمزي

 

يقول المرحوم قحطان الهرمزي في مقابله معه أجراه مصطاف عباس لجريدة الأديب الثقافية البغدادية العدد 153 – 10/10/2007:

 

“اجل انا كنت وما زلت من جماعة كركوك، وهذه الجماعة لم تكتسب ابدا الصفة القانونية كجمعية او تجمع او جماعة وانما ظلت صداقات مستديمة بين عدد من الأدباء الذين انتحلوا لقب الجيل الستيني فيما بعد، ويجدر الإشارة هنا ، انا مؤسس هذه الجماعة في أواسط الخمسينيات بالتعاون مع الأديب المرحوم يوسف الحيدري الذي لازمني صداقته حتى وفاته….”

يقول الهرمزي على لسان إحدى شخصياته في مسرحية الغلاف الأخير من مجموعة قارب في الصحراء ـ اربع مسرحيات جادة / كانون الثاني 2005

“لقد اعتدت الأمر وأصبحت لدي قناعة كافية بأن النجوم والأقمار في الليل ، والشمس في النهار لا تشع للبؤساء ، ولكي أبرهن لكم على أن الوهم ليس هو الذي قادني الى هذا الظن ، فيكفي أن أقول أن الوهم نفسه تخلى عني ، لم أعد أتوهم بأن الأرصفة والشوارع والجبال والوديان وقلعة كركوك كانت لي يوما ً”

 

ويعزي جفاءه مع أصدقاءه من جماعة كركوك وانفصاله عنهم الى أسباب تتعلق بهذه المجزرة البشعة التي راح ضحيتها الأبرياء وهدمت فيها المحلات التجارية والسينمات وحدثت حوادث شنيعة أخرى حصلت نتيجة لماسي تلك الأيام بقت محفورة في ذاكرة الكركوكيين لحد يومنا هذا.

يقول الهرمزي:

“……ان موضوع الاقصاء ، للجماعة، قد تم من قبلي حيث اقصيت من حياتي قسما منهم (أي من اعضاء الجماعة) بسبب عدم استنكارهم لمجزرة كركوك البشعة والتي ارتكبت بحق التوركمان في 14 من تموز من عام 1959”.

يقول الشاعر صلاح فائق:

بسبب الاحداث الماساوية في كركوك عام 1959، وما تبع تلك من انفراط في الجماعة كترك الاديب قحطان الهرمزي وكان اساسيا في الخمسينات ، فان عدد الجماعة قلّ وتحددت اللقاءات والنشاطات الادبية . ثم غادر فاضل العزاوي الى بغداد واخرون تركوا البلاد ك د. زهدي الداوودي ونورالدين فارس . كما شهدت المدينة حملات اعتقالات وارهاب في شكل اغتيالات ثم حدث انقلاب 1963 الفاشي وادى هذا الى اعتقال الاساسيين في الجماعة ك جليل القيسي ، انور الغساني ، مؤيد الراوي ، فاضل العزاوي وغيرهم.. رغم ان بوادر تجمع مجموعة من شباب كركوك “جماعة أبناء الشقاء” بدا ابان الحكم الملكي وقبل ثورة 14 من تموز 1958 على اسس سياسية وادبية. استمرت على الاقل فكريا على نفس النهج ابان سنوات الثورة حتى انقلاب تشرين الاسود عام 1963 الذي ادخل البلاد في نفق مظلم لا يزال يقاياه يعمل بنفوس الناس. الا ان مدينة كركوك لم تتطور بدرجة تطور مدن اخرى في سنوات الثورة وبقى الكثير من بيئة المدينة تشبه ما كانت علية اثر انهيار الامبراطورية العثمانية رغم ان اكتشاف النفط كان يجب ان يكون حافزا لتطوير المدينة ولكنها جاءت بالماسي عليها.

 

يتطرق الأديب زهدي الداوودي الى الموضوع قائلا:

 

لابد من الإشارة إلى أن أول لقاء لي ب قحطان الهرمزي كان في العام 1953 حيث كنت قد نشرت في جريدة النديم البغدادية ثلاث قصائد نثر، فشجعني على كتابة القصة وإرسالها للنشر ووضع أسم جماعة أبناء الشقاء تحت الاسم الكامل. ثم طلب فيما بعد بعدم ذكر أبناء الشقاء كي لا تكون ذريعة بأيدي أجهزة الأمن لإلقاء القبض علينا.

كان يمكن لجماعة كركوك أن تنطلق انطلاقة عالمية لو توفرت لها المناخ الطبيعي والتوجيه الصحيح من قبل نقاد كبار. ورغم كل ذلك فان جماعة كركوك كانت فلتة، تستحق التفاتة جدية.

قد يعجبك ايضا