جماعة كركوك الادبية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

د. توفيق رفيق التونچي

 

الجزء الثالث

وكانت لدور السينما دورا مهما في حياة الاجتماعية والترفيهية للمدينة التي كانت تخلوا من البارات والملاهي الا ما ندر. اما في الأعياد فقد كانت ساحات المدينة تتحول الى اماكن للهو للصغار وتزدحم دور السينما بالرواد بينما تجد هناك سينمات صغيرة تعرض افلام شارلي شابلن، وكانت لأعياد في المدينة طعما اخر اختفى العديد من مظاهرها ويحدثنا الشاعر الكركوكي المجدد حسين ابو سعود عن أعياد تلك الايام قائلا:

 

“واكاد اجزم بان اعياد ايام زمان كانت اجمل من اعياد هذا الزمن الصعب، يوم كنا نستعد للعيد قبل مجيئه بايام بشراء الملابس الجديدة واهتمام النسوة بصنع الكليجة حيث يجتمعن كل يوم في دار لمساعدة اهلها في اعداد صواني الكليجة ثم طقوس الذهاب الى الفرن واعادة الكليجة المطبوخة في قدر او زنبيل ومحاولة استغفال الوالدة في الطريق واكل ما يمكن اكله من الكليجة الحارة الشهية ،وكم كان الواحد منا يتمنى لو تتاح لبنت الجيران الاثيرة فرصة المجئ الى البيت بحجة المساعدة في اعداد الكليجة لعله يحظى بنظرة او ابتسامة او لمسة ، وعلى ذكر الكليجة يقال بان صحفيا سأل احد المسئولين العراقيين في الخارج عن اماكن تواجد التمر فقال في الكليجة”

 

الحدائق العامة كانت أماكن مهمة لقضاء الوقت والتسلية في المدينة ولكنها لم تتحول في ذلك الزمان الى مكان يرتاده العوائل فكانت خاوية معظم الأوقات واهم حديقة تاريخية في المدينة هي حديقة المجيدية وكما اسلفت التي كانت بوابتها تعلوها يافطة كتب عليها بالتركية القديمة “الأبجدية” مجيديه باغجاساي أزيلت لاحقا تحت مبررات قومية فاشية كما ازيلت العديد من المباني التراثية للمدينة التي بنيت ابان العهد العثماني وهدم تقريبا جميع مباني القلعة التاريخية في المدينة. هناك حديقة كبيرة، ام الربيعين، في الطريق المؤدي الى مدينة اربيل ينتهي ببيت القاضي في أعلى التلة وكانت مدينة كركوك تنتهي عند اول ساحة بعد هذا المرتفع اذا كان هناك معمل للكوكا كولا الذي أشرت اليه في بداية كتابتي هذه ولم يكن هناك معامل او مصانع في المدينة الا إني أتذكر وجود معمل للطابوق الاجر باسم معمل” اسطه هوبي”. ولم تكن هناك العديد من الدور السكنية الى ان نصل الى قرية دارامان. اذ يعتبر حي رحيم آوى حديثا بالنسبة للأحياء الاخرى. وكنت تشاهد بيت شامل اليعقوبي رئيس بلدية كركوك على إحدى التلال الواقعة بالمقربة من ذلك المعمل. حديقة ام الربيعين تنقسم الى جزأين تمتدان على طرفي و بامتداد الشارع وقد كان هناك حمامان احدهما للرجال باسم المرحوم داود أبناء المرحوم سليمان داوود سعيد والأخر باسم ابنته نوال. وكذلك مسبحا عاما.

الحمامات كثيرة في المدينة وقد كان أكثرها للرجال ويخصص يوم للنساء. وقد كانت أمكنة مهمة للقاء والتعارف وقد تم العديد من الزيجات في أجوائها اذ كان مكان يلتقي فيها النسوة ويخترن زوجة لأبنائهم.

 

“المقهى في التراث العراقي بصورة عامة وفي كركوك بصورة خاصة كان ولا يزال له دوره الاجتماعي والسياسي ويعتبر ناديا أدبيا يجتمع فيه محبو الأدب والفن والموسيقى ويعتبر مكانا لفض النزاعات والخصومات وعقد الصفقات والزيجات. كازينو النصر “المدورة” ذلك المقهى الدائري في شارع الجمهورية احد الشوارع العصرية والحديثة كان مكان لقاء العديد من الأدباء وصفوة القوم وخاصة الشباب. المقهى بقى مكان للقاء في عموم العراق حتى للاحزاب السرية يجرى فيها الاجتماعات الحزبية وتعشش فيها رجال الامن و مخبرين والمتعاونين مع السلطة”

 

الغريب ان مقابر المدينة كانت أيضا مكان للاجتماعات واللقاءات وكانت مقابر مصلى ، عب عولك، مقابر اليهود والمسيحيين، مقبرة الشهداء، سيد علاوي ومقبرة ملا عبد الله ومقبرة الحديديين . مزارات يلتقي فيه الناس خاصة ايام الجمع والأعياد. كذلك نجد العديد من التكيات للصالحين وأصحاب الطرق الدينية والمشايخ ك تكية الطالبانيين.

يقوم الشاعر فاضل العزاوي بوصف العديد من محلات كركوك في رائعته “آخر الملائكة” حيث تدور حوادث الرواية في تلك الأحياء التاريخية وبشخصيات واقعية من ابناء المدينة يمكن التعرف إليهم لمن عاصر تلك الحقبة التاريخية من حياة المدينة وأبنائها الكرام.

 

 

المقهى مكان اللقاء عبر الأزمنة:

 

المقهى في التراث العراقي بصورة عامة وفي كركوك بصورة خاصة كان ولا يزال له دوره الاجتماعي والسياسي ويعتبر ناديا أدبيا يجتمع فيه محبو الأدب والفن والموسيقى ويعتبر مكانا لفض النزاعات والخصومات وعقد الصفقات والزيجات. كازينو النصر “المدورة” ذلك المقهى الدائري في شارع الجمهورية احد الشوارع العصرية والحديثة كان مكان لقاء العديد من الأدباء وصفوة القوم وخاصة الشباب. المقهى بقى مكان للقاء في عموم العراق حتى للاحزاب السرية يجرى فيها الاجتماعات الحزبية وتعشش فيها رجال الامن و مخبرين والمتعاونين مع السلطة.

 

 

 

 

كنا نحن الشباب لا نذهب الى ذلك المقهى المدور الذي اشتهر بأسعاره الغالية والمرتفعة نوعما وكنت تحتسي الشاي بالحليب او تنتعش بقنينة من الكوكا كولا بأسعار مرتفعة باسعار ذلك الزمان خمسون فلسا يعني درهم حيث كان سعر القنينة لا يتجوز 15 فلسا والشاي عشرة فلوس. كنت  ادرس في متوسطة الحكمة التي كانت تتناوب بناية قديمة مقابل كازينو النصر مع المتوسطة الشرقية فعندما كان اصدقائنا الادباء يحتسون الشاي في هذا المقهى. الغريب ان مدرستي هذه تحولت فيما بعد الى دائرة للجوازات ساعدني احد ابناء عمومتي باصدار جواز سفر والهروب من العراق في الاشهر الاولى من الحرب العراقية الايرانية خريف عام  1980 ونسيت ان اعود منذ ذلك اليوم.  واذا كان حديثنا يدور حول ما بعد ثورة الرابع عشر من تموز ففي عام 1959 أضاف الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم فلسا على العانة “4 فلوس” فتحول الى عملة معدنية بقيمة 5 فلوس فهتفت الجماهير “عاش الزعيم الي زيد العانة فلس” علينا ان لا ننسى انه كان هناك معملا للكوكا كولا في طريق كركوك – اربيل آنذاك على أطراف المدينة.

 

ذكرياتي عن المدينة تنتهي مع انقلاب البعث 1968 .

 

جماعة او مجموعة اصدقاء:

ساحاول ان اسرد بعض كتابات المجموعة والاشارة الى اقوالهم وسيرتهم الذاتية لاعطاء القارئ الكريم بعض المعلومات حولهم وساعتمد كذلك على النصوص التي وجدتها منشورة على صفحات الانترنت وبعض اللقائات التي اجريتها مع بعض اعضاء الجماعة.

 

 

فاضل العزاوي

 

قل للقابع في كهفه

متروكا للوحدة والنسيان

انهض لترى وجهك في مراة الحجر العمياء

انهض من نومك واطلق صرختك المكتومة

صرختك المرة في الاذان الصماء

 

كنيران بابا كركر الازلية التي لا تابى ان تخبوا شعلتها وتنطفئ حرارتها ياتي عصبة طيبة من شباب كركوك عام 1959 للتجمع حول المعبودة كركوك والالتفاف حول الكلمة مؤسسين جماعة ادبية محلية المنشا بافكار حرة منطلقة في عالم الادب الابداعي العالمي جاعلين من كل كلمة منطوقة ارثا للثقافة العالمية. هؤلاء هم ابناء العراق المجتمعين في عراقنا المصغر كركوك وقد اطلق عليهم تسمية جماعة كركوك الادبية المجددة  وفي واقع الامر لم تكن جماعة ادبية بمعنى الكلمة او تنظيما بل كان امتداد لقاءات بين الاصدقاء  تحول مع ثورة تموز الى جماعة ادبية تقدمية مستقلية يتنافس اعضائها ويتبارون حول نتاجاتهم الأدبية يقفزون من مجال الى اخر وربما يختار احدهم الشعر والاخر القصة القصيرة ثم يتركها ليمارس هواية الرسم. التسمية اطلقها ادباء يغداد عليهم وبقت الى حد يومنا هذا. هؤلاء التقوا في بيت لم يكن ابناءه دوما على وئام.

يعالج الأستاذ فاروق مصطفى*  الموضوع قائلا:

“إن جماعة كركوك لا تعني ان رابطة او جمعية جمعت أصحاب تلك الأسماء، إلا أن شيئا من هذا لم يحصل وشيوع مصطلح جماعة كركوك يعود الى أمرين رئيسيين : اولهما انهم ينتسبون الى مدينة كركوك وثمة وشائج ود وصحبة طيبة تجمعهم. وثانيهما يرجع الى محاولتهم تجديد الأدب العراقي وتحديثه وقد اثبت بعضهم الجدارة فـي هذا المضمار”.

الأستاذ فاروق مصطفى

والجدير بالذكر ان الشاعر فاضل العزاوي  قد ذكر وبالتفصيل الكثير من احوال تلك الجماعة في كتابه الموسوم الروح الحية “” وقد كتب لي في احدى رسائلة حول صدور الطبعة الشعبية للكتاب في الولايات المتحدة الامريكية. وفي  مكان اخر يذكر الاستاذ فاروق ما يلي:

“….وقد قدم الأديب (فاضل العزاوي) الوفير من استذكاراته عن الفنان والشاعر انور محمود سامي المعروف ب الغساني  في مقاله المطول المعنون بـ (أصدقاء السوء)  الذي جعله أحد ملاحق كتابه السيروي (الروح الحية) تحدث فيه مفصلاً عن صحبته: انور الغساني ، قحطان الهرمزي، يوسف الحيدري، مؤيد الراوي، وزهدي الداودي فترة اواخر الخمسينيات، هؤلاء الذين وضعوا البذرات الأولى لتلك الجماعة الأدبية التي شغلت الناس والتي عرفت فيما بعد بـ (جماعة كركوك)..”.

 

“إن جماعة كركوك لا تعني ان رابطة او جمعية جمعت أصحاب تلك الأسماء، إلا أن شيئا من هذا لم يحصل وشيوع مصطلح جماعة كركوك يعود الى أمرين رئيسيين : اولهما انهم ينتسبون الى مدينة كركوك وثمة وشائج ود وصحبة طيبة تجمعهم. وثانيهما يرجع الى محاولتهم تجديد الأدب العراقي وتحديثه وقد اثبت بعضهم الجدارة فـي هذا المضمار”

 

 

كما نرى بيئة الحدث عند فاضل العزاوي هي أحياء كركوك والشخصيات تاتي من واقع ذلك الزمان ولكن يبقى ان نعلم ان سياسة الحكم البعثي ذو النعرات القومية السلبية الذي اتى بالدمار على البلاد وعلى العباد. سياسة كان نصيب كركوك الأكبر فقد تم تخريب المدينة القديمة وهدم حي القلعة فيها وتم رفع أحياء سكنية بأكملها في حين تحولت العديد من قرى كرميان الى اراضي قاحلة بعد ان دمرت بالكامل وهجر اهلها في حملة الأنفال المشئومة. كما جرى التهجير والتبعيد القسري على ابنائها من الكورد والتوركمان والسريان.

سالت الشاعر فاضل العزاوي  في لقائي معه عن عملية التوثيق للفترة زمنية تاريخية في حياة مدينة كركوك في “اخر الملائكة ” وهل فاته شيئا او احد من أصدقائك من جماعة كركوك؟ حدثنا عن تلك الأيام الخوالي وما كان محور نقاشاتكم في مدينة تعددية الثقافة وملتقى للإقامة كمتحف ثقافي. اجابني مصححا ما ذهبت اليه قائلا:

 

ـ لم يكن هدفي في رواية “آخر الملائكة” التوثيق وانما كتابة رواية تعكس روح العراق، بل الشرق كله والطريقة التي يفكر بها الناس في مواجهة مصائرهم وأقدارهم. والسؤال الأهم في الرواية فلسفي يتعلق بالأمل في الفردوس الذي ينتهي الى الجحيم. لا علاقة للرواية بجماعة كركوك ولا بأحد من أصدقائي او نقاشاتنا. وهي قبل كل شيء ملحمة تنبؤية تربط الماضي بالحاضر وتمتد الى المستقبل، لذلك اعتبرها العديد من النقاد الألمان رواية تنبأت بظهور داعش قبل ربع قرن من صعودها، مثلما تنبأت بما يسمى بـ”الربيع العربي” الذي انتهى الى جحيم، كما في الرواية.

لقد تحدثت عن كركوك وعن جماعة كركوك وحياتنا وعلاقاتنا ونقاشاتنا في كتاب آخر هو “الروح الحية” وبالذات في فصل بعنوان “أصدقاء السوء” عن جماعة كركوك.

ـ لم تكن جماعة كركوك رابطة او منظمة تضم أسماء معينة. وقد جاءت تسمية جماعة كركوك من النقاد والشعراء والكتاب الآخرين الذين انتبهوا الى أعمالهم الإبداعية المتميزة المختلفة عن أعمال غيرهم من الكتاب العراقيين. لقد كنا في الحقيقة مجموعة من الأصدقاء المبدعين الذين يمتلكون رؤى مختلفة عن غيرهم ويطرحون مفاهيم جديدة للحداثة لم يكن يعرفها الوسط الأدبي العراقي ويتقنون العديد من اللغات الأخرى، فضلا عن مجيئهم من مدينة مثل كركوك التي لم تكن معروفة بحيويتها الأدبية حتى ذلك الحين. ولذلك ليس صعبا كثيرا التعرف على من يقصدهم النقاد والشعراء والكتاب بتسمية “جماعة كركوك”. إنهم يقصدون بذلك الإشارة الى الأعمال الطليعية المتميزة التي قدمها العديد من هؤلاء الشعراء والكتاب في فترة زمنية محددة.

 

قد يعجبك ايضا