المنصب

ماهين شيخاني

بعد انتظار دام طويلاً ، شعر بدمه يتصاعد كنافورة إلى فروة رأسه بل يصل إلى أدق الأوعية الشعرية ، يكاد ينفجر من الصداع ،احتاج لجرعة من النيكوتين فهو شره الدخان ، إﻻ أن تلك اللوحة اللعينة المعلقة وراء طاولة موظف فظ ، متعال، يسأل من المراجعين كمحقق أمني أسباب المقابلة أو تقديم طلب ما، تصرفاته تلك دﻻلة كافية على مدى ارتباطه الوثيق بجهات أمنية صدت رغبته العارمة ( ممنوع التدخين ).

فكلما تصل إلى أذانه صرير مزﻻق الباب يرفع رأسه ، يلتفت لعل ساعة الفرج تدنوا ، يراقب وقع خطوات الداخل والخارج وأصحاب العباءات والعقال ، البسمة ترسم هلالين على وجوههم ، فيتفاءل حيناً ربما يسعفه الحظ ويتيسر أمره ، ثم يشرد ثانية بفكره مع تلك السحابة السوداء العقيمة ويتساءل ألهذه الدرجة يتغير الإنسان لدى حصوله على ترقية ما ،لاحظه النادل وعلامات اليأس قد فضحه ، قدم له فنجان من القهوة قبل أن يقدمها لرئيس مكتب ديوان المدير، رمقه الموظف بازدراء ، اعتذر عن الشرب و هو على أمل أن يتناول شرب الشاي مع سيادته.
تذكر زيارته الأولى وكيف كان استقباله حينها انتهز فرصة ذهابه للمديرية لزيارة وتهنئة هذا الشخص لدى استلامه المنصب، مكتب فخم بأثاثه و مذهل بالزخارف وديكوراته ، انتابه شعور بالدفء رغم زياراته العديدة للمكتب قبل ذلك كان الاستقبال رائعا بحفاوته البالغة ، كونه كان يتردد عليه في مكتبه الأول كرئيس قسم من حين لآخر بسبب علاقتهما الوظيفية.

كان رجلاً مهندما ، مهذبا، حاصل على شهادة عالية , يحمر وجنتاه خجلاً من نقص كان يعانيه أﻻ وهو /التأتأة /.

اليوم وبعد مضي فترة زمنية واستمرار الحرب تغيرت المفاهيم والقيم الجوهرية لدى البعض ، وكم كانت دهشته عظيمة عندما سمع نطقه السليم و لكنه اصطدم بجدار الخيبة حين طلب منه الانتظار خارجاً دون ترحيب أو حتى ردَّ السلام ، أين استقباله بتلك الحفاوة عندما كان خارج هذا الموقع وبعيد عن هذا الكرسي اللعين ، برودة في الحديث ونظرة غريبة حاقدة تفصح ما في داخله من حقد لئيم و موروث ملقن من عنجهية طاغية ، طلب منه الانتظار حتى ينهي اجتماعه مع أناس جالسون معه..
تغير سحنته إلى الصفرة ، ذابت الدهشة والفرحة و سرت برودة في عروقه وتوزعت على أنحاء جسده لسوء هذا التصرف الغريب ، عاد إلى موضعه في الديوان للانتظار كما أمره.

– يا الله ماذا حل لنفوس البشر، ألهمني الصبر لكبح جموح موج الغضب / الأسئلة تجرش كطاحونة في رأسه/ ..يتفصد العرق ومن حين لآخر ينظر إلى الساعة الجدارية اللعينة التي تتباطأ ، ويسأل ذاته أأتركه وأخرج أم انتظر حتى يسمح لي بالدخول ، ﻻشعوريا مد يده إلى علبة الدخان وقبل أن يولع سيكارته سمع صارخاً :

– ممنوع التدخين أﻻ ترى القارمة التي بمكتبي ، الأعمى يراها وأنت هنا من ساعة وﻻ تراها.

– عذراً ﻻشعورياً خرجتها فأنا كما ذكرت قرابة ساعة لي هنا ورأسي يدور و يحتاج إلى الدخان.

– أخرج ودخن خارج المكتب. هناك مكان خاص للتدخين بالكاريدور.

– حسناً ودوري بالدخول ..
– ربما تدخن علبة وﻻ تنال الدور ..فلقاءات جنابه كثيرة ومطولة.

خرج وركن في زاوية وبدأ ينفث سيكارته و يبرر تصرفه / ربما هناك حديث خاص وأراد أن ننفرد بجلسة خاصة / .
اخرج السيكارة الثانية ثم رجع إلى مكانه بالمكتب وهو يتابع بنظره المستخدم كيف يدخل المكتب حامل استكان الشاي والكؤوس الفارغة.

أخيراً ..دخل ولم يبق في المكتب سوى فتاة مبرهرهة، وضعت ساق على ساق بكل ثقة و أريحية.
لم يطلب إليه الجلوس وقبل أن ينطق بحرف ، باغته ورفع يده مبربراً:
ﻻ تتكلم عن مشاكلكم في العمل فأنا على دراية تامة بكل شيء.

– يا أستاذ جئتكم بموضوع يخصني وليس لي علاقة بمشاكل و تقارير الآخرين ، وعدتموني بالنقل منذ سنتين إلى مكان إقامتي ،الوصول إلى مكان وظيفتي صعب للغاية ، حيث تبعد مسافة ليست قليلة وأبقى صباحاً لساعات انتظر سير المركبات في الكراج والرجوع هلاك وخطر في هذه الظروف ، ولتعلم أصبحت المحافظة كلها تعرف سحنتي من الوقوف على قارعة الطريق رافعاً يدي للحافلات المارة ، وأنا عليل أعاني من أمراض عدة ، أضف على ذلك الأجرة التي قصمت ظهري , لذا كلي أمل بمساعدتكم لتتكرموا بنقلي.

– تدخلت الجالسة وكأنها رأفت لمعاناته ، قالت :
اكتب طلبك وقدمه لسيادة المدير…؟.

– الطلب جاهز يا آنسة ، و برزها في وجه المدير ومن ثم قدمها له لقراءة المضمون…!.

– / دون تأتأة / وبسخرية قال: آه من جماعة الحرية ، الاسم واضح من العنوان، يا سيد آزاد لن نسمح لك بالنقل ..؟!!.هل فهمت …؟. الظروف تغيرت.

– يا أستاذ طيلة هذه الفترة وأنا كنت أرتاد لمكتبكم أنسيتم أسمي..؟.
لماذا ﻻ تسمح لي بالنقل وقد انتقل الكثير من زملاءنا في الدائرة.

– لهم وضع خاص وﻻ يحق ﻷمثالك محاسبتي ، أنا المسئول هنا وأنا  أقرر ذلك وأدرك تماماً مصلحة وأمن الدولة.
– لم يأبه لردة فعل الجالسة عندما صاحت : يا سيد تفضل من غير مطرود…؟. وإﻻ سأطلب ضابط الأمن..
– لم يكترث بتهديدها وقال: أمن الدولة ، عن أي أمن تتحدث وهل بقي أمان في هذا البلد ، أمثالكم هدموا البلد , قل علناً هم من أبناء جلدتي وأنا عنصري ﻻ يهمني أمر أحد ، ﻻ يهمك وضعي الصحي وظرفي المادي…؟. وبعد هذه السنين التي مضت عنيفة والمصائب الجمة و حضرتك تقول أمن الدولة ، هذا الكرسي الذي تجلس عليه الآن كان حلماً بالنسبة لك , للوصول إليه لوﻻ هذه الظروف التي تهزأ منها..

– بسل وجهه ، ثم رمى الطلب نحوه وبحركة من يده تدل على الخروج من مكتبه و دار وجهه بإهمال ﻻ مثيل له وكأنه لم يكن / كائناً / حاضراً ، ثم ارتشف كأس الشاي و توجه بالحديث مع جليسته : تفضلي أكملي حديثك واعتذر عن المقاطعة بسبب كثرة المراجعون و زحمة العمل صدقيني كلما أدقق في أسماء الموظفين لو بوسعي لغيرت هكذا أسماء أو طردتهم من الوظيفة…
كان الصوت ينخفض رويداً رويداً لدى إغلاق الباب خلفه ، نزل وهو مكتظ يجر أذيال الخيبة ، ارتخت يداه وغطت غشاوة على عينيه ، أحس بضيق في صدره ودوار برأسه ، حاول أن يمد يده إلى أزرار قميصه ، لكن دون جدوى ، سقطت الورقة التي بين يديه على درج السلم تحت أقدام المارة…؟.وتدحرج إلى أسفل السلم فاقداً وعيه.
– انتهت –

قد يعجبك ايضا