خمسة تأملات في تناقضات الانسان ….

د. ابراهيم احمد سمو

المقطع الأول:
الأنانية المقنعة بالابتسامة

كما هي عادته الدائمة وعقدته التي تلازمه، لا يفرح بالخبر السار لأخيه المتفوق في كل شيء. يستيقظ صباحًا، لكنه لا يبادر بإلقاء السلام على أحد، وكأن الكلمات قد جفت على لسانه. يخرج من باب المنزل، يمضي إلى وجهته دون أن يكلف نفسه عناء تحية أهل البيت. يجلس هناك في الخارج، ينتظر من يشاركه وجبة الإفطار، ليس من أفراد العائلة، بل من الغرباء الذين يلتقيهم صدفة في إحدى الجولات اليومية.

يستقر على الطاولة، يوجه نظراته يمينًا ويسارًا، متجنبًا اتخاذ أي خطوة تدل على المبادرة. عندما يأتي زميله، يتعمد إحراجه عبر تلميحات غير مباشرة ليجعله يتحمل دفع الفاتورة. وعندما ينجح في ذلك، يضحك كثيرًا، وكأن الأمر بالنسبة له انتصار شخصي.

بعد انتهاء الوجبة، يصعد إلى السيارة، وقبل أن يضغط زر التشغيل، ينفجر ضاحكًا ويقول: “ما أغباهم! في كل مرة يدفعون الحساب، بينما أنا أخرج دون أن أدفع شيئًا!” يكرر الأمر في كل لقاء، معتبراً نفسه ذكيًا لأن الآخرين يسددون نيابة عنه. لكن الحقيقة أن تلك الضحكات لا تعبر عن ذكاء أو فطنة، بل عن أنانية مقنعة بابتسامة زائفة، يحاول بها إخفاء عجزه عن تحمل المسؤولية.

المقطع الثاني:
وهْم الأنا وحقيقة الأنانية

دائمًا ما يضع نفسه في المقدمة، فهو الأول والآخر، والباقون لا قيمة لهم في نظره. كلما تطور شخص من حوله أو حقق إنجازًا، اعتبره مجرد تهديد لصورته الذاتية. لا يرى إلا ذاته، وينسى كل جميل قدمه الآخرون له في مواقف الحياة. منذ اللحظة الأولى، أدركنا جميعًا أنه لا يستحق التقدير، لكننا كنا مضطرين للتعامل معه.

في البداية، كان يحاول التظاهر بالطيبة والاهتمام، لكن مع مرور الأيام، بدأت ملامح الأنانية تظهر بوضوح. كان يرى الجميع صغارًا في حضرته، وكأنهم لا يستحقون أي احترام أو اعتبار. يتجاهل جهودهم، ويسخر من تميزهم، محاولًا التقليل من شأنهم في كل مناسبة.

رغم أن وجوده بينهم كان مصدر إزعاج، لم يكن أحد يملك الجرأة على مواجهته بحقيقته. كان يعتقد أن ذكاءه الخارق يخفي عيوبه، لكن مع الوقت، بات واضحًا أن تلك الأنانية ليست إلا قناعًا يخفي وراءه عقدة نقص. في نهاية المطاف، أصبح وجوده عبئًا على الجميع، ولم يعد له مكان بينهم، إذ فهموا أخيرًا أن التقدير الحقيقي لا يُمنح لمن يضع ذاته فوق كل اعتبار
خداع المظاهر وزيف التقوى: بين الأناقة المصطنعة والازدواجية الأخلاقية

المقطع الثالث :
زيف المظهر وسطحية الجوهر

في الشارع العام، هو اسم معروف وعلم متداول، لكن الواقع يخالف ذلك تمامًا. على المستوى الظاهري، يظهر بملابس أنيقة: بدلة رسمية، ربطة عنق مرتبة، وحذاء لامع يعكس ضوء النهار. لكن خلف هذا المظهر الأنيق، يقبع عقل لا يعرف أبجديات التعامل الراقي ولا يفهم قيمة الانسان.

عندما يصل إلى أي لقاء اجتماعي، يبتسم الجميع له بتكلف، وكأنهم يقدمون له ترحيبًا حارًا. يقفون جميعًا للسلام عليه، يحاولون إظهار المودة والاحترام. لكنه يعلم في قرارة نفسه أن تلك التحية ليست سوى واجب اجتماعي، ليس فيها صدق ولا عفوية.

ما إن يغادر المكان حتى تبدأ الهمسات تتعالى. يتنفس الحاضرون الصعداء، ويعبرون عن ارتياحهم من رحيله. يتحدثون عن تصرفاته الغريبة وتعامله الفظ، ويتساءلون كيف يمكن لأحد أن يتحمل غروره الفارغ. يتفق الجميع على أن وجوده عبء ثقيل، لكنهم، في حضوره، يلتزمون بالصمت، وكأنهم يخشون مواجهته بحقيقته.

إنه زيف اجتماعي يفضح مجتمعًا يميل إلى المجاملة على حساب الصراحة. عالم يعجز فيه الناس عن قول الحقيقة للمسيء: “لقد أسأت”، أو للطيب: “لقد أحسنت”. هكذا تترسخ صورة مغلوطة، حيث يغلف المظهر الأنيق جوهرًا خاوياً، وسط مجتمع غالبية أفراده لا يملكون شجاعة مواجهة الزيف بالحقيقة .

وعندها أدرك أن ما دار أعلاه كان حلمًا، ثم انصرف

المقطع الرابع :
ازدواجية الواعظ بين خطبة النهار وحلم الليل

في ليلة هادئة، كان يتصفح مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، فلفت انتباهه فيديو لأحد زملائه المعروف بحبه للمزاح وهوسه بمغريات الدنيا. لكن هذه المرة كان المشهد مختلفًا تمامًا؛ فقد ظهر الزميل مرتديًا ملابس دينية تقليدية، معتمرًا عمامة، وهو يقف على منبر في إحدى القرى النائية، يلقي خطبة دينية بحماسة واضحة. كانت القرية حديثة العهد بالإنترنت، ويبدو أن أهلها لم يدركوا بعد أن هذا “الإمام” الذي يدعوهم للصلاة هو نفسه الذي اشتهر في المدينة بمشاكساته ونكاته الطريفة.

في صباح اليوم التالي، بينما كنا في طريقنا إلى العمل عبر الشارع المعتاد، مرت بالقرب منا سيارة حديثة الطراز. ولدهشتنا، كان زميلنا ذاته خلف المقود، وبجواره امرأة فاتنة الجمال، وكأنها حورية في الدنيا لا في الآخرة. كان يضحك من أعماقه، وكأن شيئًا لم يكن.

اقترب منا بابتسامة ساخرة، وقال بصوت يملؤه التهكم: “أي غباء هذا؟ الناس يصدقون الأقوال لا الأفعال! تحركت خطواته وعيناه تدوران يمينًا ويسارًا، يلتفت خلفه مرارًا، حتى خُيّل إليّ من كثرة التفاته أنه على وشك الاصطدام بشخص أو بشيء. كان يضحك بصوت عالٍ، وقهقهاته تصلني من مسافة بعيدة

حلم يكشف زيف الأقنعة

ملكه شعور غريب، وكأنه يعيش حلمًا غير واقعي. وما هي إلا لحظات حتى تبيّن أنه كان حلمًا مزعجًا، فاستفاق مستاءً، ونهض من فراشه متثاقلًا. تناول كأسًا من الماء القريب، وارتشف جرعة منه ليستعيد وعيه. تمتم بصوت خافت: “أستغفر الله… أستغفر الله.”

عندها، أدرك بعمق حكمة ذلك الحلم وتفسيره؛ فقد أيقن أن بعض الناس يجيدون ارتداء الأقنعة، ويتلاعبون بالمظاهر، فيحولون الحقيقة إلى لعبة يديرونها ببراعة، مستغلين ثقة الناس في الخطاب دون النظر في السلوك

المقطع الخامس :
القطار الذي فات: صراع الذات وضياع الفرص

في ذلك اليوم، شعر بالدهشة حين مر دون أن يتبادل أحد معه السلام. لكنه لم يستغرب كثيرًا؛ فقد اعتاد على تقلباته المزاجية، تارة يرغب في السلام وتارة ينفر منه. يعيش في صراع دائم مع ذاته، لا يشبع أبدًا، وكأن الدنيا بأسرها حمل ثقيل على كتفيه. نشأ على الأنانية التي تقتله بصمت، غير مدرك أن هناك من هو أرقى منه مقامًا وأعلى شأنًا رغم ما بلغه من منارات العُلى.

أحيانًا يحبس نفسه بعيدًا عن الآخرين، وعندما يلتف حوله الأهل يدّعي الحزن والأسى، لكنه ما إن يجد فرصة للخروج حتى ينقلب حاله إلى ضحك وهتافات بين الأصدقاء، وكأن شيئًا لم يكن.

وفي لحظة من شروده، أدرك أن القطار قد فات، وأنه لن يتوقف مرة أخرى عند المحطات القديمة. لقد تغيرت المسارات، وأُنشئت محطات جديدة تحتاج إلى قوة الماضي للوصول إليها، وهو ما يفتقده الآن. ومع تسارع الزمن كسرعة البرق، أدرك أن من لم يمتلك القوة والعقل سيفوته القطار. من كان يسعى للحاق بالقطار قد مات قبل أيام.

استفاق من حلمه على وقع الصدمة:أدرك أن الحلم يحمل رسالة عميقة: أن حياة الإنسان إلى زوال، وإن لم يكن اليوم، فغدًا لناظره قريب

قد يعجبك ايضا