احمد غازي الجبوري
أنا مواطن عربي من بغداد، لا أنتمي إلا للعراق ولا أتبنّى أي أيديولوجيا او توجه ولا أملك مصلحة في أن أجامل أحداً اطلاقاً، لكنني أقولها بصراحة وراحة ضمير … “أنا منحازٌ لكوردستان”
انحيازي ليس لقومية أو لهوية بل لقيم ومبادئ انحيازي للعدل للمساواة وللخدمة التي تُقدَّم للإنسان قبل أن يُسأل عن أصله أو مذهبه أو لونه وهناك في إقليم كوردستان لمست بأم عيني تجربة مختلفة تجربة تستحق الاحترام والاقتباس
تجربة مواطن بغدادي في كوردستان
حين تتجول في شوارع أربيل أو دهوك لا ترى مدينة خيالية ولا نظامًا معصومًا من الخطأ لكنك تشعر أن هناك جهدًا حقيقيًا يُبذل من أجل الناس ترى الشوارع نظيفة والإدارات تعمل والخدمات الأساسية متوفرة تشعر بأن المواطن الكردي ليس مهمشًا ولا منسيًا بل هو في صلب أولويات حكومة الإقليم
الكهرباء لا تنقطع لساعات طويلة المياه نظيفة وتصل إلى البيوت والدواء متوفر في المستشفيات والأهم من ذلك أن الكرامة محفوظة لا تشعر بأنك بحاجة إلى واسطة أو “دفع من تحت الطاولة” كي تُنجز معاملة بسيطة
لماذا هذا الفرق ؟
لست خبيرًا سياسيًا لكنني كمواطن بسيط أرى أن الفرق يكمن في نية الإصلاح وصدق الإدارة في كوردستان هناك على الأقل محاولة لإقامة نظام يخدم الناس بينما في مناطق كثيرة من العراق لا يزال المواطن يُعامل كرقم زائد أو كمجرد ورقة في معادلة سياسية معقدة
حين تقارن … تتألم
عندما أعود من أربيل إلى بغداد، أشعر بالإحباط ليس لأن بغداد لا تستحق بل لأنها تستحق أكثر بكثير مما هي عليه إلا ان الفساد بات متجذراً ومزمناً والخدمة شبه غائبة والكفاءة مغيبة المواطن هنا يعيش على الهامش يُطالب بكل شيء، ولا يُمنح شيئًا معتبراً …
لذلك، لا أجد حرجًا في أن أقول إنني منحازٌ لكوردستان العراق منحازٌ لتجربة فيها شيء من الكرامة وشيء من العدل وشيء من الإنسانية
تمسكٌ بالحياة رغم أزمة الرواتب …
ورغم كل ذلك فإن أهل كوردستان لا يعيشون في رخاء دائم بل إنهم يواجهون أزمة خانقة تتمثل في تأخير الرواتب وقطعها لأشهر طويلة وهي أزمة أثرت على معيشة الناس وأرهقت الموظف والمُعلم والطبيب وكل من يسعى للعيش بكرامة
هذه الأزمة التي تتحمل حكومة بغداد جزءًا كبيرًا من مسؤوليتها لم تثنِ أبناء الإقليم عن تمسكهم بالحياة بل على العكس تجدهم مستمرين في العمل في بناء ما يستطيعون في تعليم أطفالهم وفي زرع الأمل في بيوتهم
ما يثير الإعجاب حقًا هو أن شعورهم بالكرامة لم تهزّه الظروف الاقتصادية ولم تُفقدهم إنسانيتهم ولم تُغيّر من ثقتهم بحقهم في حياة أفضل وهذا برأيي هو جوهر التجربة الكوردستانية التمسك بالكرامة رغم الضيق والتمسك بالحياة رغم التجاهل والتمسك بالحق رغم كل محاولات التهميش
رسالة أمل …
ربما ليست كوردستان جنة، لكن ما رأيته هناك يعيد لي شيئًا من الأمل بأن العراق كله يستطيع أن يكون أفضل إذا وُجدت النية والإرادة والإخلاص في العمل لا أريد أن يبقى هذا الفرق قائماً بين مواطن عربي وآخر كردي بل أتمنى أن تُصبح كل بقعة في العراق نموذجًا للعدالة والخدمة
ختاماً …
كوردستان ليست بعيدة عنا جغرافيًا لكنها أقرب بكثير لما نتمناه ونستحقه وأملي أن يصل هذا النموذج الناجح إلى كل مدن العراق وأن تعم العدالة والشفافية والاحترام جميع المحافظات من البصرة إلى نينوى ومن الأنبار إلى ديالى فليس هناك ما يمنع أن يعيش العراقي بكرامة في أي مكان طالما وُجدت الإرادة الصادقة والنظام العادل
وكوردستان برأيي ورأي كل منصف قطعت شوطًا كبيرًا نحو كرامة الإنسان لا لأنها بلغت الكمال بل لأنها اختارت أن تسير في الطريق الصحيح، وهذه التجربة ليست فقط نجاحًا محليًا بل هي دعوة مفتوحة لكل من يريد أن يرى العراق حيًّا مزدهرًا ومعافى من الفساد والتهميش
فلننظر إلى ما هو ناجح ونتبناه وننحاز اليه، قد لا تكون كوردستان مثالية لكنها تقدّم لنا درسًا واضحًا خلاصته أن الطريق إلى العراق الذي نحلم به يبدأ من احترام الإنسان … هذا هو الانحياز الذي أؤمن به وهذا هو العراق الذي أتمناه