مهند محمود شوقي
العلاقة بين بغداد وأربيل ليست مجرد خلافات عابرة أو مشكلات مالية عادية، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بطبيعة هذه العلاقة نفسها. منذ تشكيل الحكومة العراقية الجديدة بعد عام 2003، وخصوصا مع تطبيق الدستور الدائم في 2005، كان من المفترض أن تبدأ مرحلة جديدة من الشراكة الحقيقية والاحترام المتبادل بين مكونات العراق. لكن الواقع كان مختلفا، حيث تعرّض الدستور لانتهاكات متكررة، وحقوق إقليم كردستان تُهضم ببطء، من ملف الرواتب إلى الموازنة، وصولا إلى مستقبل العلاقة بين المركز والإقليم.
ملف رواتب موظفي الإقليم أصبح لعبة سياسية بامتياز، تُفتح وتُغلق على حساب حياة الآلاف من العائلات، رغم تأكيد المحكمة الاتحادية على عدم ربط الرواتب بالخلافات السياسية. لكن الواقع في العراق يتصرف بعقلية تتجاهل القانون والدستور، ويفرض أجندة مركزية تقضي على روح الشراكة.
الادعاء بأن العقود النفطية للإقليم غير قانونية يتناقض مع حكم محكمة الكرخ التي أكدت قانونيتها فإذا لم تعترف بغداد بالعقود ولا تحمي حقوق الإقليم فكيف تطالب بتسليم النفط بلا ضمانات واضحة؟
الزعيم الكردي مسعود بارزاني عبّر بوضوح عن هذا الواقع حين قال “إذا كنا جزءا من العراق، فلا يجوز لهم أن يلعبوا بحياة شعب كردستان، وإذا لم نكن كذلك، فليعلنوا ذلك صراحة.” وأضاف في حديثه خلال مؤتمر اتحاد الطلبة والشباب “التعامل الحالي مع إقليم كردستان ليس فيدراليا، وكأن سنوات النضال والتضحيات اختُزلت فقط في المطالبة بالرواتب. لو كان الأمر كذلك، لما صمدنا كل هذه السنوات.”
من أبرز تداعيات هذه السياسة الظالمة هي المعاناة المباشرة التي لحقت بالمواطنين الكرد، لاسيما الموظفين وأصحاب الدخل المحدود. انقطاع الرواتب لفترات طويلة خلق أزمة معيشية خانقة، اضطر معها الكثير من المواطنين للاستدانة أو بيع ممتلكاتهم الأساسية لتأمين الاحتياجات اليومية. المدارس تأثرت، والمراكز الصحية قلّصت خدماتها، والاقتصاد المحلي دخل في حالة ركود حاد. أزمة الرواتب ليست فقط قضية مالية، بل أصبحت قضية كرامة ووجود، حيث يشعر المواطن الكردي بأن حقوقه تُستخدم كورقة ضغط، لا كاستحقاق دستوري.
ما يحدث اليوم في بغداد هو محاولة لإعادة إنتاج نظام مركزي رغم كل ما قاومه العراقيون قبل 2003. هذا الانحراف هو خيانة لفكرة الدولة الاتحادية التي قامت على أساس احترام الجميع، عربا وكردا.
لكن رغم كل ذلك، حكومة إقليم كردستان، وبالتحديد الكابينة التاسعة برئاسة مسرور بارزاني، التزمت بكل واجباتها الدستورية. سلمت النفط حسب الاتفاق، وقدمت قوائم الرواتب والمالية بشفافية، وعملت بتنسيق مستمر مع بغداد لإدارة الموارد. مسرور بارزاني نفسه بذل جهودا ملموسة، زار بغداد مرات عدة، التقى بالرئاسات الثلاث، وقدم مبادرات للحوار وحل النزاعات، لكن الرد كان في الغالب الإصرار على فرض واقع يهمش إقليم كردستان ويحد من حقوقه.
استمرار هذا النهج الإقصائي لن يؤدي إلا إلى تعميق الهوة بين مكونات الوطن الواحد، ويدفع الجميع إلى التساؤل: أيّ شراكة هذه التي تُبنى على الانتقاص والتمييز؟
في موازنة 2023، تم تخصيص 12.67 في المئة من إجمالي الموازنة لإقليم كردستان، لكن بعد اقتطاعات النفقات السيادية والحاكمة، لم تصل الحصة الحقيقية سوى إلى أقل من 6.5 في المئة من الإنفاق العام، وهي نسبة لا تعكس عدد السكان ولا حقوق الإقليم الدستورية.
كما أن الادعاء بأن العقود النفطية للإقليم غير قانونية يتناقض مع حكم محكمة الكرخ في بغداد التي أكدت قانونيتها. فإذا لم تعترف بغداد بالعقود، ولا تحمي حقوق الإقليم، فكيف تطالب بتسليم النفط بلا ضمانات واضحة؟
وبينما تؤكد المحكمة الاتحادية ضرورة عدم ربط الرواتب بالخلافات السياسية، تتخذ قرارات متضاربة في ملفات تخص الإقليم، ما يعكس ازدواجية في التعاطي مع النصوص الدستورية، ويفقدها الحياد المطلوب من مؤسسة قضائية يُفترض أن تكون مرجعا للفصل لا طرفا في الخلاف.
إن استمرار هذا النهج الإقصائي لن يؤدي إلا إلى تعميق الهوة بين مكونات الوطن الواحد، ويدفع الجميع إلى التساؤل: أيّ شراكة هذه التي تُبنى على الانتقاص والتمييز؟ إن ما يطالب به إقليم كردستان ليس امتيازا، بل حقوق دستورية واضحة، أقرتها الوثائق، وكرّستها التضحيات. فإذا كانت الدولة الاتحادية قد وُلدت من رحم الشراكة، فإن تهميش أحد أطرافها هو تقويض لمفهومها من الأساس. إن كردستان اليوم لا تطالب بالانفصال، بل بالعدالة. وإن لم تعد بغداد قادرة على ضمانها، فإن سؤال المصير سيُطرح من جديد، ولكن هذه المرة بصوت أعلى، وإرادة لا تعرف التراجع.