الاستاذ المساعد الدكتور
فكري عزيز حمد السورجي
كان التحكيم سائداً في المجتمعات القبلية بعده الأداة الفردية للتسوية الودية للمنازعات عن طريق الغير، وكان عرفا في المجتمعات الفرعونية واليونانية والرومانية.
ونعتقد بأن وجوده كان قبل نشوء الدولة، فهو قديم قدم المجتمعات البشرية، ففي المجتمع البدائي الأول كان نظام العلاقات الاجتماعية يسمح للفرد أو القبيلة لتحصيل حقه بنفسه في وجه أعدائه، ثم ظهر فيما بعد التحكيم الذي يتنازل بموجبه المتنازعون عن تحصيل حقوقهم بأيديهم، ويعهدون إلى شخص ثالث بإيجاد حل للخلاف، وهذا الشخص إما أن يختاره الطرفان، أو يكون من أصحاب النفوذ في المجتمع.
ونعتقد بأن سبب ظهور التحكيم في هذه المرحلة كان يعود إلى عدم وجود سلطة عامة تقيم العدل، ولتجنب ممارسة العدالة الفردية، ولحل المنازعات بالطرق السلمية، وحتى عندما ظهرت السلطة العامة لم يكن من مهماتها في مراحلها الأولى عبء تحقيق العدالة في المجتمع، ولهذا بقي التحكيم هو الوسيلة الوحيدة. وبعد تطور المجتمعات البدائية أصبحت السلطات العامة مسؤولة عن تحقيق العدالة في المجتمع، ومع ذلك فقد بقي التحكيم قائمًا، وسلّمت به السلطة، وحرص المجتمع على إبقائه، لكنه أصبح عدالة ثانية إلى جانب العدالة الرسمية ويعمل تحت رقابتها وإشرافها. وكانت وظيفة التحكيم التوفيق بين المتنازعين، فهو مصالحة وليس حسمًا للمنازعات كما في القضاء الرسمي، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى القرن العشرين.
وغالبًا كان المحكمون يختارون من الأقارب أو الأصدقاء أو الوجهاء الحكماء الذين يعرفون كيف تتم التسوية صلحًا، لذا كان الحَكَم مصلحًا أكثر منه قاضيًا، يستوي في هذا الأمر البلاد الإسلامية التي كانت تطبق مجلة الأحكام العدلية، أو البلاد الأوروبية التي كانت تطبق القوانين ذات الأصول الرومانية أو القوانين الإنكليزية.
وقد كان للتحكيم في الشرائع القديمة صور متعددة وعجيبة، من أهم تلك الصور، الاحتكام إلى مهارة الخصمين الفنية، التي كانت تمارسه بعض الجماعات الإغريقية والرومانية، ومن يتابع ما يؤديه من فن إلى النهاية يعد صاحب الحق، والصورة الأخرى وهي الاحتكام إلى المصادفة البحتة، وكانت تطبقه بعض القبائل بأن يعرض كل من المتخاصمين طعاما معينا في مكان يكثر فيه الغربان فمن أكلت الغربان طعامه يعد الخاسر، ومن الصور الأخرى المبارزة التي عدت وسيلة أخرى لفض المنازعات واكتساب الحقوق لدى الكثير من الجماعات البدائية، وأخيرا صورة التحكيم بالمحنة، التي كانت تطبقه بعض القبائل بأن يطلب من كل من المدعي والمدعى عليه اختيار صحفه من صحفتين احداهما مسمومة ومن يختار المسمومة يعد خاسراً ومذنباً.
وعند الرجوع إلى الكتابات التاريخية نجد أن القانون السومري قد عرف نظام للتحكيم شيبها بالقضاء حيث كان يتوجب عرض النزاع على محكم عام، وقد عرفه قدماء العراقيين، وكذلك عرفه قدماء الإغريق وكان لديهم مجلس دائم للتحكيم لحل المنازعات التي تحدث بين المدن اليونانية، كما إن الحضارة اليونانية قد عرفت التحكيم في تشريعات (صولوا). وكذلك عرف التحكيم في القانون الروماني، وكان الرومان يجيزون التحكيم فقط في منازعات مواضيع القانون الخاص، أما مواضيع القانون الدولي فكان لا يجيزون فيه التحكيم لأنهم لا يؤمنون بمبدأ مساواة الدول.