النبلاءُ

 

   مروان ياسين الدليمي 

يُطْفِئونَ الفجرَ في حذاءٍ مهجور
ويُعلِّقونَ أصواتَهم على مشجبِ الريح.

ليسَ لهم ظلٌّ في الماء
ولا يُكَرِّرُهمُ الغيابُ.

يمشونَ على خيوطٍ من طينٍ نادم
ويتركونَ البابَ مواربًا ليتذكّرَ الخشبُ
أينَ اختبأَ الصوت.

عندما يُولدُ الصمتُ في مقعدٍ فارغ
يضعونَ أسماءهم في جيبِ الغيم
ويواصلونَ النزيفَ دونَ أن يشتكوا للوقت.

النبلاءُ لا يموتون
بل يُجرِّدونَ أنفسَهم من اللغةِ
ويصعدونَ خِفافًا
كأنَّ الأرضَ لم تلدْهم
وكأنَّ الذاكرةَ
ليست إلَّا خطأً في الكتابة.

من رآهم؟
كانوا هنا
يشربونَ من فمِ الضوء
ثمّ انطفؤوا بلا أثر
كأنَّ النُبلَ
مجردُ طريقةٍ أخرى للغياب.

لا يُطرَقُ البابُ بعدَهُم
فالطُّرُقاتُ تفقِدُ معنَى الرَّنينِ
حينَ لا يَعودُ أحدٌ منَ الجِهاتِ الأرْبَعِ.

على المقاعدِ القديمة
تنكمشُ الجلساتُ
كأنّ الرفاقَ لم يتركوا دفأهم
بل أخفوهُ عمداً
تحتَ عباءةِ النسيان.

النبلاءُ يعرفونَ أن الأشياءَ
تحبُّ من يرحل
تمامًا كما تُحبُّ الطيورُ
السماءَ التي لا تمتلكها.

حينَ خرجوا
لم يأخذوا مفاتيحهم
تركوها للصدأ كي يتعلّمَ الانتظارُ
أن لا أحدَ يعودُ من الحكمةِ كاملة.

لم يلتفتوا
خشيةَ أن تبتلعهمُ الملامح
أو أن تتشبّثَ بهمُ الأصواتُ
التي علّموها الرحيل.

النبلاءُ لا يُجيدونَ التوقيع
يُفضّلونَ أن يُنسَوا
كما يُنسى الحرفُ الزائدُ في القصيدة
أو الحلمُ الذي جاءَ في توقيتٍ خاطئ.

عندما نبحثُ عنهم
نجدُ ظلالاً على جدرانٍ ليست لنا
ونكتشفُ أننا نكتبُهم كلَّ مرةٍ
كي لا نقولَ وداعًا.

في الغيابِ، 
تتفتّحُ الندوبُ
كأزهارٍ في تربةٍ بلا موسم.

النبلاءُ
لا يخلعونَ ملامحهم على العتبات
بل ينسحبونَ منها
كما تنسحبُ القصيدةُ من شفاهِ نبيٍّ
رفضَ الوحيَ متأخّراً.

هم لا يقولونَ شيئًا
لكنّ الصمتَ يُجاهرُ بأسمائهم
كأنّهُ كان تلميذهم الوحيد.

تركتُ آثارَ أصابعهم
على مرآةٍ نَسِيَت أن تعكس
وعلى كوبِ شايٍ بارد
كان ينتظرُ يدًا لن تعود.

النبلاءُ لا يُفتّشونَ في الحصاد
يعبرونَ الحقلَ
ويتركونَ القمحَ للغرباء
والسؤالَ للماءِ اليابس.

أدركتُ متأخّرًا 
أنهم حينَ يغادرون لا يسلبونَ شيئًا
بل يُعيدونَ للأشياءِ خجلَها القديم.

هم الذين يكتبونَ الرحيل
بلغةٍ لا تترجم
ويرسمونَ الغياب 
على هيئةِ نافذةٍ مفتوحةٍ دومًا
ولا تُطلُّ على أحد.

قد يعجبك ايضا