د. ابراهيم احمد سمو
في زمن يتسارع فيه التطور، وتتنافس فيه الشعوب على الريادة بالعلم والثقافة، يطرح سؤال جوهري نفسه بقوة: هل يكفي أن نذهب إلى المدرسة والجامعة لنُصنف من المتعلمين؟ وهل كل من حصل على شهادة جامعية يُعد مثقفاً؟ وهل الجاهل هو فقط من لا يعرف القراءة والكتابة؟ أسئلة تتجاوز ظاهرها لتدخل عمق مفهومنا للتعلم، وتعيد ترتيب الأولويات في طريق بناء الإنسان الواعي.
في اعتقادنا البسيط والمتواضع، المدرسة والجامعة ليستا سوى محطتين مهمتين من محطات العمر، تضعان بين يدي الطالب أبجديات المعرفة، وتمنحانه مفاتيح التفكير الأولي. إنها بدايات لا أكثر، أدوات للانطلاق نحو رحلة أكثر عمقًا. فالحروف التي يتعلمها التلميذ في الصف، والجمل التي يحفظها في كتاب التاريخ أو الكيمياء، لا تصنع وحدها عقلًا متفوقًا، ولا تكوّن كاتبًا مبدعًا أو عالِمًا مؤثرًا. التعليم النظامي يؤهلك لتعرف الطريق، أما السير فيه، فهو اختيارك وجهدك الذاتي.
من هنا، يظهر الفارق العميق بين “المتعلم” و”المثقف”. فالمتعلم هو من ارتاد صفوف الدراسة، ونجح في تجاوز امتحاناتها، وربما نال شهادة تُعلّق على الجدار. أما المثقف، فهو ذلك الذي لم يتوقف عند حدود المنهج الدراسي، بل سعى إلى ما وراءه، فتح بطون الكتب، وقرأ في السياسة والفلسفة والتاريخ والأدب، وناقش، وكتب، وسمع، وشاهد، وامتلك رأيًا في قضايا عصره. المثقف هو من تجاوز المعلومة إلى المعنى، ومن تحرر من سلطة النقل إلى سلطة العقل.
التعليم الجامعي، في صورته التقليدية، لا يصنع هذا النوع من الإنسان إلا إذا اقترن بإرادة التعلم الحقيقي خارج الصف. الجامعات تجهزك لمرحلة ما بعد التخرج، أما ما تصنعه بنفسك في تلك المرحلة، فهو ما يحدد مكانتك الفكرية والعلمية. من يجتهد خارج أسوار الصف، ويتعامل مع المعرفة بشغف وفضول، هو الذي يصنع الفارق الحقيقي. من أراد أن يكون كاتبًا، عليه أن يقرأ كثيرًا ويكتب كثيرًا ويخطئ كثيرًا ثم يتعلم من خطئه. ومن أراد أن يكون عالمًا، فعليه أن يتحدى القوالب الجاهزة ويخوض تجربة البحث والاكتشاف.
كم من خريج جامعة لم يتجاوز حدود شهادته؟ وكم من إنسان لم يدخل الصف يومًا لكنه امتلك حكمة تفوق الكثير من الأكاديميين؟ لا عيب في أن يكون الإنسان بسيط التعليم، لكن العيب أن يبقى في جهله متعاليًا، أو في علمه مغرورًا.
إن الثقافة لا تقاس بعدد الكتب التي قرأها الإنسان فقط، بل بقدرته على الفهم، والتأمل، وربط المعاني، وامتلاك رؤية واسعة تجاه الحياة. الثقافة تعني أن تكون إنسانًا حرًا في تفكيرك، مسؤولًا في موقفك، أخلاقيًا في تعاملك مع المعرفة.
في المقابل، لا ينبغي الاستخفاف بجهود التعليم النظامي، فهو الأساس الذي يقف عليه البناء. بل إن الدول المتقدمة تدفع أبناءها دفعًا نحو التعلم، وتوفر لهم البيئة المناسبة ليكتشفوا ذواتهم وقدراتهم. لأنها تدرك أن التعليم ليس رفاهية، بل ضرورة من ضرورات التنمية والنهوض. والفرق بين مجتمع يقدّر التعليم وآخر يستهين به، هو الفرق بين أمة تنهض وأخرى تتراجع.
ومع هذا، تبقى الحقيقة المؤلمة: كم من المثقفين وأصحاب الأقلام يعيشون في هامش المجتمع، بينما يتصدر المشهد أشخاص لا علاقة لهم بالعلم أو الثقافة؟ كم من مفكر عظيم لا يجد قوت يومه، وكم من أمي يملك الثروة والسلطة؟ هذا التناقض يجعل البعض يشكك في جدوى العلم، لكنه في الحقيقة دليل على فساد في توزيع القيم، لا في قيمة العلم ذاته.
العلم يزيد ولا ينقص. العلم يرسخ مكانة الإنسان، حتى لو لم تَعتَرف به المؤسسات. المثقف الحقيقي لا يُقاس بعدد المتابعين ولا بحجم الشهرة، بل بما يتركه من أثر، بما ينفع به غيره، بما يفتح من آفاق أمام العقول.
من هنا، علينا أن نعيد النظر في مفهوم “الغنى”. فالغنى الحقيقي ليس في رصيد البنك، بل في رصيد العقل. المال يأتي ويذهب، أما العلم فيبقى، يرافق الإنسان حتى بعد رحيله. كم من كاتب مات قبل عقود، وما زالت كتبه تُقرأ؟ وكم من غني عاش ومات دون أن يُترك له أثر يُذكر؟
إن المدرسة تعلمك كيف تقرأ، لكن من يعلمك ماذا تقرأ؟ الجامعة تمنحك شهادة، لكن من يمنحك الفهم العميق؟ الجواب: هو أنت. إرادتك، شغفك، بحثك المستمر، هو ما يصنعك.
وفي مواجهة الجهل، سواء كان جهلًا حقيقيًا أم جهلًا مغرورًا، لا بد أن نؤمن بأن الجهل ليس فقط عدم معرفة الحروف، بل هو رفض استخدام العقل، هو أن ترى النور وتفضل العيش في الظلام، هو أن تتعصب لفكرتك وترفض الاستماع لغيرك. الجهل هو حين يُغلق الإنسان بابه على فكر واحد، ولا يسعى للتعلم ولا للحوار.
في المقابل، المتعلم الحق هو من يسأل، ويشك، ويتأمل، ويصغي. هو من يعرف أن العلم بحر لا قرار له، وأن كل يوم يحمل معه معرفة جديدة، وأن التواضع هو أول شروط الحكمة.
فلنُربِّ أبناءنا على هذا المعنى. لنقل لهم إن التخرج من الجامعة ليس نهاية الطريق، بل بدايته. دعونا لا نكتفي بأن نعلّمهم كيف ينجحون في الامتحانات، بل كيف يعيشون الحياة بفكر ومسؤولية. لنشجعهم على القراءة الحرة، على النقاش، على الإبداع، على أن يكون لهم رأيهم المستقل، لا نسخة مكررة من الآخرين.
وفي النهاية، يبقى الإنسان المتعلم والمثقف هو ثروة الأمة الحقيقية. هو من يُحدث الفرق، حتى لو لم تكرّمه المؤسسات. هو من يكتب، ويُنير، ويصنع من فكره جسرًا للعبور نحو المستقبل.