قال تعالى:
(كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ)
سورةً ألروم اية ٣١
د. توفيق رفيق التونچي
الاختلاف (diversity) التعددي مبدأ أساسي لسيادة الوئام والسلام في المجتمعات وتأتي فقط باحترام التعددية الفكرية السياسية والعقائدية و وجود الاختلاف وتقسيم بين انتماء أبناء المجتمع إلى أقوام وطوائف وعقائد مختلفة وكل ذلك أغناء للديمقراطية والتعددية الفكرية في المجتمعات المدنية المفتوحة.
مصطلح الأقلية والأكثرية لا تناسب الدول ذو الثقافات التعددية لان وببساطة ربما ما تعنية الأقلية هم الأقوام الأصليون للبلد والآخرين هم من الغزاة والمحتلين وحتى من المهاجرين.
العدالة عند الفيلسوف الإغريقي أفلاطون في مدينته الفاضلة هي القوة المجردة، وهي ليست حق الشخص القوى، وإنما هي تعاون كل أجزاء المجتمع تعاوناً متوازناً فيه الخير للجميع.
اما التعددية الثقافية فهي إغناء لثقافة الدول وقد اعتمد كأساس لاتحاد دول اوربا، الاتحاد الأوربي (EU) ذو الثقافات والعقائد المختلفة. لا توجد منطقة جغرافية شاهدت هجرات سكانية وغزوات واحتلال وعبر التاريخ كما هي عليها الشرق الأوسط وتغيرت تركيبتها القومية الاثنية والعقائدية والثقافية مرات عدده وعبر التاريخ. نرى مثلا بان للوجود التركي في المنطقة تاريخ حديث تقريبا ألف عام وحتى الهجرات العربية القادمة من الحجاز بعد انتشار الدين الإسلامي عن طريق الفتوحات والغزوات تعود إلى تلك الفترات.
الشرق تغير تركيبتها اللغوية وكتابة لغاتها كذلك مع تغير الحكام، على أسس مبدأ “الناس على دين ملوكهم”، وتغيركذلك عقائدها ودياناتها فبعد انً كانت الشعوب الإيرانية من الطائفة السنية تغير انتمائها إلى المذهب الاثنى عشري الشيعية بقرار الحاكم الصفوي التركي. كما حصل نفس التغير في المنطقة في العهد الفاطمي وبقى حوالي ثلاث قرون.
التعددية دائما إغناء للتركيبة السكانية ونرى ذلك أسلوبا للحكم في بعض الدول ودول أخرى تختار اسم قومية من قومياتها وغالبا من الأكثرية في الاسم الرسمي لدولها كما هي عليها اللاحقة (العربية) في بعض الدول او اسم القومية كما في جمهورية تركيا وألمانيا والسويد ودول أخرى في حينً تختار دول أخرى لنفسها الوطن في تسمية دولها كما في البرازيل، الأرجنتين، المكسيك، المغرب، الجزائر، الدنمارك، السودان، لبنان، كويت ودول أخرى كثيرة.
التعددية الثقافية والقومية كانت كذلك من صفات الإمبراطوريات في العالم وترجع أصوله التاريخية عند جميع الإمبراطوريات إلى أسماء غير قومية أمثال الرومانية، البيزنطية، السلجوقية، العثمانية، العباسية، الأموية، المصرية، البابلية والسومرية والحثية، الآشورية والتي جميعها تسميات غير قومية لم تكن قومية، بل يشارك فيها الجميع بمقاييس معينة حيث كانت الثروة والقوة البدنية والمكانة العسكرية احدى المقاييس للمواطنة وليس الانتماء القومي.
لكن الرياح الصفراء أتت مع انتشار الفكر القومي من الغرب ولأسباب وأهداف سياسية استعمارية ونرى تبعاتها لحد يومنا هذا. هذا الانتشار كان بفعل قوى إمبريالية استعمارية قادها الاستعمار البريطاني والفرنسي قبل وإبان الحرب العالمية الأولى وهي سياسة لتفتيت الدولة العثمانية وهدمها من داخلها أولا نشرت بين الأتراك ثم نشرها بين جميع القوميات في جميع الولايات. كان اهم نتائج تلك السياسة الثورة العربية الكبرى في الحجاز وانهيار الدولة العثمانية ومن ثم إنهاء الخلافة الإسلامية وتأسيس دولة تركيا الحديثة.
نرى كذلك ان النموذج الإيراني مختلفا تماما رغم ان كان هناك حركات قومية وما يسمى ب پان ايرانيزم وقادها السياسي ورئيس الوزراء الراحل مهدي بازركان رغم انه من الآذريين الأتراك مدعيا ” انً كل من تحدث الفارسية، “فارسي” والحكم الصفوي والقاجاري كانوا من الأتراك وحكم الدولة الزندية كانت كوردية القيادة. الجدير بالذكر ان المرجع والمرشد الشيعي الأعلى للشيعة ولي الفقيه يجب ان يكون عربيا وسيدا من الأشراف حسب الأعراف السائدة. هناك تجارب أخرى في التاريخ الحديث نرى انهيار حكم الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبية والتي كانت احدى مخلفات الاستعمار الهولندي. وكما ذكرتً نرى اليوم انعكاساتها في الأحزاب القومية في القارة الأوربية تلك الأحزاب القومية والمتطرفة تناضل من اجل إفشال تجربة الاتحاد الأوربي مناديا بالصفاء العرقي لشعوبها وطرد المهاجرين لا بل اعتبارهم عالة على مجتمعاتهم ينشرون الجريمة رافضين التكامل والانصهار في الثقافات الغربية.
شباب كركوك ودعوة للتأخي. الصورة: من مقتنيات الأستاذ فهمي الكاكائي
المناداة بالصفاء العرقي كلفت البشرية الملايين من القتلى ودمار المدن في الحرب العالمية الثانية، ولكن الأوربيين اليوم يتبنون نفس تلك الأفكار ولم يتعلموا من دروس التاريخ. الجدير بالذكر ان التاريخ يذكرنا دوما بسقوط جميع الكيانات الأحادية القومية وبقاء وازدهار تلك التي اعتمدت التعددية.
رغم ان التوسع الإمبراطوريات كانت سببا لفنائها كذلك.
كي اقرب الفكرة للقارئ الكريم أضرب مثلا لتركيبة السكانية لشعب كوردستان العراق:
الثقافات: (لا اعني بالثقافة الانتماء القومي منه فقط، بل كذلك الثقافي)
الكوردية، التوركمان، العربية، السريانية، الشبك، اللر الفيلية، الهورمانين ورغم انه اللر والشبك والهورمانيين يعتبرون من الكورد إلا أنها ثقافتين مختلفتين وهناك اقوام وثقافات أخرى كثيرة.
العقائد والطرق الدينية والطوائف:
الإسلام بشقيه السنة والشيعة ، المسيحيون وبجميع طوائفهم، اليهودية، اليزيديين، الكاكئية اليارستانية، الزرادشتية، الكسنزانية، النقشبندية أهل الحق الرافضة وطوائف وطرق دينية أخرى.
اللغات واللهجات:
الكرمانجية، السورانية، الهورامية، الگورانية، الضاضائية، الشبكية، الايزيدية، التوركمانية لهجة كركوك،أربيل، طوز، التون كوبري وتلعفر، اللورية، الفيلية، العربية، السريانية، الأرمنية ولهجات أخرى كثيرة.
الارث التراثي تشمل العادات والتقاليد، العرف والعادات والملبس والمشرب والمأكل:
السليمانية، الگرميانية، الهورامية، الكركوكية، الكرمانجية، الشبك، الشنگالية ، الفيلية اللرية، الدهوكية ،الخانقينية، السيريانية الحويجة العربية، الشبكية وثقافات أخرى.
هناك مراقد ومزارات ومعابد ومساجد وحسينيات وكنائس وأديرة ولمعظم الأديان والعقائد والطوائف الدينية منتشرة في جميع اجزاء الإقليم.
هذه الحديقة الثقافية الغناء لشعب كوردستان لا يمكن في اي حال من الأحوال قيادتها أحاديا فكريا او دينيا وحتى قوميا بل ان التوسع في الرؤية الموسعة المنفتحة وغير المغلقة وبناء المجتمعات المفتوحة نتيجتها ديمومة تلك المجتمعات والكيانات وتطورها. مع نشر الوئام والسلم المجتمعي بين جميع مكوناتها واحترام التعددية. وكل كيان أحادي يمثل في النهاية امال وأهداف جزء من الكيان السياسي وهذا وارد في الأيديولوجيات السياسية وفي تشكيل الحكومات التي تمثل دوما حزبا وافكار ذلك الحزب او احزاب مؤتلفة تتفق على سقف وقاسم مشترك لقيادة مشتركة للدولة. الدول الوطنية فيها الحكومة متناوبة تتألف من أعضاء حزب سياسي انتخبه أكثرية ابناء الشعب ٥١ ٪ ويطبق الورقة الانتخابية والوعود التي قطعها للناخب خلال فترة زمنيةً محددة غالبا تستمر لأربع سنوات.
لكن الدولة كمؤسسة، قيادتها ومؤسساتها تمثل كافة ابناء الشعب وكافة قطاعاته وهذا التمثيل ينعكس على تركيب الشعب بأجمعه ويشمل جميع رموز الدولة من مؤسسات، راية او نشيد وحتى لغة وقوانينها ودساتيرها. الجدير بالذكر أننا امام تجربتين قوميتين فاشلتين في المنطقة وهي تجربة القومية العربية بالقيادة المصرية العروبية- الاشتراكية الناصرية (الاتحاد الاشتراكي العربي) والبعثية العفلقية السورية العراقية – السريانية وكلاهما فشلا في تعريب شعوب المنطقة وقيادة دولها إلى الرفاه والحرية لا بل بقت في صراعات داخلية ومع جيرانها وقتلت شعوبها وزجت اخيارهم في السجون والمعتقلات وبنت سلطة دكتاتورية أحادي الخندق. كما فشلت التجربة التركية الطورانية في تتريك شعوب الأناضول وبقت شعوبها محتفظة بهوياتها الثقافية والعقائدية لا بل ازداد وعيها وتمسكها بكل جزئيات ثقافتها وهويتها الأثنية والعقائدية.
أي كيان سياسي يعتمد على الصفاء القومي العرقي (أمة عربية واحدة) والأحادية في تركيبها الفكري والسياسي (خندق واحد) محكوم بالفشل وبالفناء لأنه يمثل الجزء من شعوبها في هذه المجتمعات التعددية ولا تمثيل المجموع مهما كانت تلك التمثيل يمثل الأكثرية السكانية العددية فيها. الجدير بالذكر ان التعددية السكانية نسبية فقد يكون العرب أقلية في ايران، إقليم الأحواز، ولكنهم أكثرية في جارتهم دولة الكويت.
الأحادية في الحكم يؤدي دائما الى الهلاك والانهيار ولبس ابلغ من انهي مادتي هذه بسورة من القران الكريم جديرة بالتأمل والتفكر والتعقل:
“وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ”
[الإسراء:58]
الاستفادة من التجارب التاريخية للشعوب مهمة جدا لعدم التكرار للأخطاء والابتعاد من فكرة العداء للآخرين المختلفين قوميا او ثقافيا عقائديا.
المجتمعات المدنية المنفتحة والمبنية على أسس التسامح والعيش المشترك تبقى وغيرها وقتية زائلة.
شعب كوردستان اليوم تقدم نموذجا حضاريا في المنطقة وستبقى تجربة رائدة يحتذى بها في منطقة تتلاطم وتتصارع فيها الثقافات.
السويد
٢٠٢٥