د. ابراهيم احمد سمو
البارحة ليلًا، التقيت بصديق الدرب، كبيرٍ في العمر، عميقٍ في التجربة، ممن ذاقوا مرارة الحروب وشهدوا أهوالها في شبابهم. كان القلق طاغيًا على وجهه، وكأن الذاكرة تستدعي صورًا مؤلمة. سألته عن رأيه فيما يُثار اليوم عن مواجهة بين إسرائيل وإيران، فهزّ رأسه بحزن وقال:
“حرام… كل هذه الحروب، وخاصة هذه. لا نريد مزيدًا من الدماء. كفانا قتالًا، كفانا جثثًا، كفانا مآسي.”
كان يتحدث بصدق لا غبار عليه، فيما ظهرت ملامح الخوف بوضوح في حركات يديه، وعيناه تبرقان بقلق عميق. لم يكن خائفًا على نفسه، بل على الأبناء، على الجيل الجديد الذي لم يذق بعد طعم الحرب، ولم يعرف جنون الجبهات، ولا ضجيج المدافع. جيل لم يُستدعَ للخدمة العسكرية، ولم يحمل بندقية، ولم يفقد رفيقًا في ساحات المعارك. جيل تخرّج من الجامعات، لكنه لم يذق طعم التعيين، ولا عرف لذة تحصيل لقمة العيش بجهده اليومي.
استمعت إليه بصمت، وأنا أتفهم مخاوفه، لكنني كنت أحمل رؤية أخرى، تتماشى مع تحولات الزمن. قاطعته فجأة، وقلت له بثقة:
“هذه ليست كالحروب التي عرفتَها… هذه حرب الأزرار.”
نظر إليّ متسائلًا، فتابعت:
“نعم، إنها حرب لا يُقتل فيها الكثير من البشر، لكنها تُسقط أنظمة بكبسة زر. لا حاجة فيها إلى زحف الجيوش، ولا إلى احتلال أرض، ولا لحشد آلاف الجنود على الحدود. إنها حرب بلا خرائط تقليدية، ولا ساحات صراع واضحة. لا برّ ولا بحر… بل جو، وتكنولوجيا، وذكاء صناعي، وهجمات سيبرانية، ومسيّرات، ومنصات تحكم عن بعد. القائد يجلس في غرفة عمليات محصّنة، يضغط زرًا، فينطلق الصاروخ ليصيب هدفه بدقة، ثم يعود السلاح إلى صمته، فيما تشتعل النيران على بُعد مئات الكيلومترات.”
قلت له:
“لا تقلق… إنها حرب جديدة، تختلف عن تلك التي بين روسيا وأوكرانيا، حيث رغم الحداثة، ما تزال المعارك تعتمد على الزحف البري لأن الحدود متلاصقة، والاشتباك مباشر. أما بين إسرائيل وإيران، فالوضع مختلف.”
أضفت:
“إسرائيل تمتلك تفوقًا جويًا هائلًا، واستخبارات نشطة، وتكنولوجيا متقدمة. في المقابل، تمتلك إيران صبرًا يُضاهي صبر أيوب، وصناعة عسكرية محلية تتطور بسرعة، وتمتلك أيضًا مهارة كبيرة في تصنيع المسيّرات والصواريخ البعيدة المدى. الطرفان لا يحتاجان إلى مواجهة تقليدية، فكل طرف قادر على ضرب الآخر عن بُعد. ضغطة زر قد تُشعل المنطقة كلها.”
إنه توصيف دقيق لحرب وقعت ، لكن لا تقل خطورتها عن الحروب التقليدية. صحيح أنك قد لا ترى آلاف الجنود يُقتلون، لكنك ستشهد انهيار أنظمة مالية، وانقطاع الكهرباء، وتعطّل الاتصالات، بل حتى نقص مياه الشرب. إنها حرب الأكواد والمسيّرات، حيث تُستبدل البنادق بالبرمجيات، والجيوش بالأقمار الصناعية والطائرات دون طيار.
إسرائيل، من جهتها، تعيش في حالة استنفار دائم، مدركة أن أي خطأ قد يُكلفها غاليًا. فهي تعرف أن إيران ليست عدوًا اعتياديًا. إيران ليست غزة، وليست حزب الله فحسب، بل منظومة متكاملة، تتبنى عقيدة طويلة النفس، وتراهن على تغيّرات الزمن والجغرافيا.
وفي المقابل، تدرك إيران أن المواجهة المباشرة مع إسرائيل محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل الدعم الأميركي المفتوح لتل أبيب. لذا، تنتهج طهران استراتيجية غير تقليدية: تسليح الحلفاء، إدارة الصراع عبر الوكلاء من اليمن إلى العراق، ومن سوريا إلى لبنان. ورغم أنها فقدت الكثير من أذرعها في سوريا بالتمام ولبنان صار من الماضي ، إلا أن استراتيجيتها ما زالت قائمة.
ومع ذلك، فإن الصدام المباشر قد يصبح واقعًا، حتى لو لم يُرد الطرفان ذلك. فالحروب الكبرى لا تبدأ دائمًا بقرار من القادة، بل أحيانًا تكون نتيجة حتمية لتراكم الأخطاء، وغياب العقلانية، وتضارب الحسابات. ضربة واحدة خاطئة، ورد فعل غير محسوب، ثم تبدأ العجلة بالدوران ولا أحد يستطيع وقفها.
الأخطر من كل ذلك، أن هذه الحرب المحتملة لا تهدد إسرائيل وإيران فقط، بل تمتد نيرانها إلى المنطقة بأكملها. الخليج لن يبقى بمنأى، والعراق قد يُستخدم كساحة، وسوريا ولبنان سيتلقيان الشظايا، وربما تصل النيران إلى البحر الأحمر والممرات الدولية. والخاسر الأكبر سيكون، كالعادة، الشعوب… المدنيون… الأبرياء.
ضحك الرجل الكبير حين قلت له:
“لن تكون هناك مواجهة رجل لرجل.”
قال ببراءة:
“إذًا اطمأنّنا!”
لكنه لم يدرك أنني كنت أتحدث عن مواجهة من نوع آخر… مواجهة لا تقل خطورة، بل تفوقها أحيانًا، لأنها تستهدف البشر دون أن تراهم، وتضرب دون أن تسمع صوت الانفجار.
ورغم كل هذا السواد، يبقى هناك أمل. ففي زمن “حرب الأزرار”، لا يزال هناك زر واحد يمكن الضغط عليه: زر العقلانية، زر الحكمة، زر السلام. هذا الزر لا تصنعه مصانع الأسلحة، بل تصنعه إرادة الشعوب وضمير القادة. لكنه للأسف… نادرًا ما يُستخدم في الوقت المناسب.
في الختام، نحن أمام عالم جديد، تتبدل فيه أدوات الحرب، كما تتبدل وسائل الإعلام، والاقتصاد، والسياسة. حروب بلا وجوه، ودمار بلا صراخ، ونتائج لا نراها فورًا، لكنها تُحدث فينا جراحًا لا تندمل.
ربنا يسترنا، ويستر الجميع، ويجعل لهذه المنطقة مخرجًا فيه الخير والسلام والاستقرار