متابعة ـ التآخي
عادة ما تتركز النقاشات بشأن استغلال الذكاء الاصطناعي في الأعمال على قضايا أمن البيانات، والاستعمالات الأخلاقية، ومخاطر الاعتماد المفرط على هذه التقنية الناشئة.
غير أن هناك نقاشات ومخاوف متزايدة بشأن البصمة البيئية للذكاء الاصطناعي، وهي مخاوف مشروعة وجديرة بالاهتمام.
ومع التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي على استهلاك الطاقة والمياه، فضلا عن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم، تبرز أهمية دمج موضوع الاستدامة البيئية في النقاشات الدائرة حول الذكاء الاصطناعي المسؤول؛ في الوقت ذاته، هناك شعور متجدد بالأمل في قدرة الذكاء الاصطناعي على الإسهام الإيجابي في التحول العالمي نحو اقتصاد منخفض الكربون.
ومع تزايد الاعتماد على هذه التكنولوجيا، ينبغي التأمل في تأثيرها المزدوج: اسهامها في تغير المناخ من جهة، ودورها في مكافحته من جهة أخرى.
على مدار العقد الماضي، سعت خدمات الحوسبة السحابية إلى تحسين كفاءة استهلاك الطاقة عبر استخدام أجهزة موفرة للطاقة وأنظمة تبريد متقدمة في مراكز البيانات، إلا أن الطلب المتسارع من تقنيات الذكاء الاصطناعي يتجاوز مكاسب الكفاءة الحالية.
فمثلا، يستهلك استعلام واحد عبر ChatGPT قرابة خمسة أضعاف ما يستهلكه البحث التقليدي على الإنترنت، كما يقدّر أن تدريب انموذج لغوي واحد مثل GPT-3 يتطلب كهرباء تعادل استهلاك 130 منزلا أمريكيا في عام كامل.
أما توليد الصور باستعمال الذكاء الاصطناعي، فله تكلفة طاقية أعلى بكثير؛ إذ إن توليد صورة واحدة قد يستهلك طاقة تعادل شحن هاتف ذكي بالكامل.
وتستهلك عمليات الذكاء الاصطناعي كميات ضخمة من المياه، نظرا لاعتماد مراكز البيانات على أنظمة تبريد تعمل بالمياه للحفاظ على درجات حرارة التشغيل المثلى.
وتشير التقديرات إلى أن GPT-3 يستهلك ما يعادل زجاجة مياه بسعة 16 أونصة لكل 10 إلى 50 استجابة، مما يضاعف التأثير البيئي عند الحديث عن مليارات الاستعلامات.
ومن المتوقع أن يبلغ استهلاك الذكاء الاصطناعي السنوي من المياه 6.6 مليار متر مكعب بحلول عام 2027.
ولا تقتصر البصمة البيئية على التشغيل فقط، بل تمتد إلى البناء والصيانة، اذ تمثل العمليات اللوجستية نحو ثلثي الانبعاثات الناتجة عن مراكز البيانات طوال مدة تشغيلها، وتشمل الانبعاثات الناتجة عن تصنيع البنية التحتية ومعدات تكنولوجيا المعلومات والرقائق الإلكترونية.
يقدّر البنك الدولي أن قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، الذي يشمل الذكاء الاصطناعي، ينتج ما لا يقل عن 1.7% من إجمالي الانبعاثات العالمية. وبرغم أن هذه النسبة تظهر محدودة نسبيا، فإنها لا تعكس الاستهلاك الفعلي المتوقع في المستقبل القريب.
ومع الانتشار المتسارع للتكنولوجيا الرقمية، والتوسع في التخزين السحابي، وإنترنت الأشياء، والعملات المشفرة، وتقنيات البلوك تشين، يحتمل أن يصبح الأثر البيئي للذكاء الاصطناعي أكبر بكثير، حتى مع التحسينات في الكفاءة.
وبحسب وكالة الطاقة الدولية، قد يصل استهلاك مراكز البيانات العالمية إلى 1000 تيراواط / ساعة من الكهرباء بحلول عام 2026، بزيادة تبلغ 400% مقارنة بعام 2022.
وفي السياق نفسه، كشفت شركات تقنية كبرى مثل جوجل ومايكروسوفت عن زيادات سنوية في الانبعاثات، محذّرة من تحديات كبيرة تعرقل تحقيق التزاماتها المناخية، ومع ذلك، تواصل عديد الشركات العمل على تطوير حلول مبتكرة لتقليل استهلاك الطاقة والانبعاثات.
واتخذت شركات رائدة في قطاع التكنولوجيا خطوات ملموسة للحد من انبعاثاتها، منها: أمازون: تمكنت من مطابقة 100% من استهلاك عملياتها العالمية للطاقة مع مصادر متجددة. مايكروسوفت: ألزمت مورديها باستعمال كهرباء خالية من الكربون بنسبة 100% بحلول 2030، وتتبنّى هي نفسها هذا الهدف.
جوجل: تلتزم بالاعتماد الكامل على الطاقة الخالية من الكربون بحلول 2030، وتعمل على تحسين كفاءة نماذج الذكاء الاصطناعي لديها. OpenAI استثمر مؤسسها سام ألتمان في شركة “Exowatt”، التي توظف الطاقة الشمسية لتلبية احتياجات مراكز البيانات.
Salesforce تدعو إلى وضع لوائح تجبر الشركات على الإفصاح عن بيانات انبعاثاتها وكفاءة استعمال الذكاء الاصطناعي، ضمن مبادرة “الذكاء الاصطناعي المستدام”.
ويمكن للمنظمات من جميع الأحجام اتخاذ إجراءات عملية لتقليل الأثر البيئي للذكاء الاصطناعي، منها: استخدام أدوات قياس دقيقة، والعمل مع الموردين لتحليل الأثر البيئي لتقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة، و الاعتماد على نماذج مدرّبة مسبقا، وضغط النماذج، واستخدام المعالجة الدفعية لتقليل الطاقة المستهلكة.
وكذلك إدراج تغيّر المناخ ضمن تقويمات نظام إدارة الذكاء الاصطناعي، وتبنّي نهج مسؤول وشامل للاستدامة، و اختيار منصات تعتمد على الطاقة المتجددة، وتحمل شهادات مثل ISO 14001 وISO 42001، و تثقيف الموظفين حول الأثر البيئي للذكاء الاصطناعي، وتشجيعهم على تقديم حلول مبتكرة لتقليل استهلاك الموارد.
وبرغم المخاوف البيئية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دورا جوهريا في مواجهة تغير المناخ عن طريق تحليل كميات ضخمة من بيانات المناخ لتقديم رؤى استراتيجية، تحسين كفاءة استخدام الموارد، تطوير مواد جديدة صديقة للبيئة، التنبؤ بالطلب لتقليل الهدر والانبعاثات، و تحسين تقويم دورة حياة المنتجات والانبعاثات المرتبطة بسلاسل التوريد.
ومن الضروري للمنظمات مواكبة متطلبات المستثمرين والعملاء بشأن الاستدامة، وقياس انبعاثاتها، ونشر تقارير دورية تخضع لتدقيق خارجي.
في النهاية، يظل موضوع استهلاك الذكاء الاصطناعي للطاقة والمياه حاضرا بقوة في الأوساط البيئية والتكنولوجية؛ ومن الشركات الناشئة إلى الشركات العالمية، تقع المسؤولية على الجميع للعمل الجاد من أجل الحد من الانبعاثات والحفاظ على كوكب الأرض. الآن هو الوقت المناسب للعمل الجاد والقرارات الحاسمة.