الأستاذ الدكتور
نزار الربيعي
التصوف عند أهل الطريقة الكسنزانية ليس مجرد مجال علمي أو طريق تعبدي، بل هو سلوك وجودي عميق، ينطلق من القلب ويعود إليه، ويقوم على التجربة المباشرة والتطهير الروحي المستمر، فالتصوف ليس طارئًا على الدين، بل هو جوهر ما كان عليه أصحاب النبي سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ومن زهد ورضا وصبر وتوكل، حصلت له إشراقات عرفانية، وكرامات روحانية، واستقامة سلوكية باهرة، وقد أشار حضرة السيد الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان القادري الحسيني (قدست أسراره) إلى أن الطريق إلى الله تبدأ من معرفة النفس وتطهيرها من أمراض الرياء والحسد والعجب، ثم السير فيها حتى تذوب في نور الحقيقة، فـ”من عرف نفسه، عرف ربه”. وهذا هو لب التجربة الصوفية الكسنزانية: أن تصبح النفس مرآة صافية تنعكس عليها تجليات الذات الإلهية، وفي مقام التأحد، وهو من أسمى المقامات الروحية، يذوب الإحساس بالكثرة والتعدد، ولا يعود السالك يشعر بشيء خارج الحقيقة الواحدة، المتجلية في كل شيء، عبر أنوار الذات وأسماء الله وصفاته، وفي هذا المقام، كما عبّر عنه حضرة الشيخ شمس الدين، “ينكشف الغيب للبصائر، وتصبح الحواس عيونًا على الغيب، ويصير السالك مشاهدًا بنور الله لا بنوره هو.”
وكما قال الفيلسوف وليم جيمس، فإن الألم في هذا المقام يتحول إلى انسجام إلهي مطلق، ويفيض المعنى على القلب حتى لا يبقى فيه محل لسؤال أو حيرة، بل يملأ وجود الله كيان العارف، فيسكن العقل، ويسجد القلب، أما الإشراق والكشف في الطريقة الكسنزانية، فليسا مجرد حالات طارئة، بل هما ثمرة السلوك المنضبط بالأوراد والتربية والتجرد، حيث يتحقق فناء الشعور بالذات، وتتلاشى الأنانية، ويفسح المجال لنور الله ليملأ الكيان، فالصمت والجوع، والذكر، والخلوة، والسهر، ليست سوى وسائل للوصول إلى الإشراق الروحي والنور الرباني، وهي جزء من منهاج الخلوة الكسنزانية التي أسسها حضرة السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان (قدس سره). وفي التجربة الكسنزانية، فإن التأحد هو فناء في المحبة، وجمع في الذكر، وغياب في الحضور الإلهي، وهو لا يعني إنكار التعدد الوجودي، بل تجاوزه نحو شهود التعدد في وحدة الحق، وهذا ما أشار إليه حضرة الشيخ شمس الدين بقوله “ليس المقصود أن لا ترى الخلق، بل أن تراهم بنور الحق، فتشهد أن كل ما في الوجود آية له، وصورة من جماله.” وقد عبّر الدكتور عثمان يحيى عن التوحيد الصوفي بأنه امتحان شاق بالدموع والآلام، وهذا المعنى تجسده الطريقة الكسنزانية في مفهوم المجاهدة بالحب، حيث تكون الدموع بوحًا، والآلام قربانًا، والعارف لا يهرب من الحياة، بل يشهد فيها تجليات الحبيب المطلق، وفي النهاية، فإن التأحد عند أهل الطريقة الكسنزانية ليس نهاية الطريق، بل بداية مقام المحبة والعشق، حيث يتحول العارف إلى مرآة للجمال الإلهي، يشهد في كل شيء تجليًا من الله، ويعيش في حضرته الدائمة، كما جاء في قول حضرة الشيخ شمس الدين “العشق في الحقيقة، هو بقاء بعد فناء، وظهور بعد غياب، وهو أن ترى وجه الله في كل وجه، ونوره في كل كائن.”