قانون النفط والغاز الاتحادي المعلّق: بين النصوص الدستورية ومطرقة النزاعات السياسية

د. حمدي سنجاري

يطرق الخلاف أبواب تأجيج الصراع من جديد وهذه المرة بسبب العقود الأخيرة التي وقّعها إقليم كردستان مع شركتين أميركيتين في قطاع الغاز. ولم تنتظر وزارة النفط الاتحادية حتى عودة الوفد الكردي من واشنطن لمناقشة أبعاد العقدين وفهم جدواهما الاقتصادية، التي تشير تقديرات أولية نُشرت في تقارير متخصصة إلى أنها قد تتجاوز 110 مليارات دولار من الاستثمارات المشتركة في البنية التحتية للطاقة التقليدية والمتجددة.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام مشهد يتكرر باستمرار: عودة إلى التعقيد بدلاً من الحلول، النزاع بدلاً من التفاهم، الشكوك بدلاً من حسن النوايا، والافتراضات بدلاً من الاحتكام للدستور. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى متى سيبقى المواطن هو الضحية الوحيدة لهذه الصراعات المستمرة؟

لفهم جذور الأزمة، لا بد من العودة إلى الدستور العراقي لعام 2005، الذي صوّت عليه الملايين في استفتاء شعبي وشكّل ثمرة مفاوضات ومشاورات طويلة بين قادة سياسيين وخبراء دستوريين واقتصاديين، بدعم من خبرات دولية متعددة، بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة (UNAMI).

◄ المصلحة العامة تقتضي أن نقرأ هذه العقود بوصفها أداة للتكامل لا وسيلة للانقسام، وفرصة لبناء الثقة لا مبررًا لتقويضها

لأهمية قطاع النفط، أُخرجت مواده من الصلاحيات الحصرية المنصوص عليها في المادة 110، وتم وضعها في مواد خاصة هي (111 و112). وكان ذلك تراجعًا عن التوجه المركزي الذي ميّز قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2003، والذي منح الحكومة المؤقتة آنذاك صلاحية حصرية لإدارة الثروات الطبيعية، كما نصت عليه المادة 25/هـ.
تنص المادة 111 على أن “النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات،” وهي صياغة تؤكد شمولية الملكية دون أن تُحسم أداة الإدارة. أما المادة 112، فقد حدّدت أدوارًا دقيقة تبدأ بمنح الحكومة الاتحادية صلاحية إدارة الحقول الحالية فقط – أي تلك المنتجة وقت إقرار الدستور – وبالاشتراك مع حكومات الأقاليم والمحافظات.

هنا، تلعب مفردة “الحالية” دورًا محوريًا في تفسير النص الدستوري، وهي مفردة لم تأت عبثًا؛ إذ تؤكد محاضر لجنة كتابة الدستور – بحسب ما كشفت عنه تصريحات عدد من أعضائها لاحقًا في لقاءات إعلامية – أن الحقول المكتشفة بعد 2005 تدخل ضمن صلاحيات الحكومات المحلية أو الإقليمية.

◄ العقود التي وُقّعت مع الشركتين الأميركيتين لا تقتصر فوائدها على إقليم كردستان، بل تحمل بعدًا وطنيًا يمكن أن يسهم في تعزيز ثقة المستثمرين بالبيئة العراقية

تضيف الفقرة الثانية من المادة 112 أن على الحكومة الاتحادية “المشاركة في رسم السياسات” المتعلقة بالنفط والغاز، دون أن تُمنح صلاحية الإدارة. وهذا تمييز بالغ الأهمية أُشير إليه مرارًا في الجلسات التشريعية، وحتى في طعون قانونية لاحقة، منها القرار البارز للمحكمة الاتحادية العليا في فبراير 2022 الذي اعتبر قانون نفط وغاز الإقليم غير دستوري، وهو قرار أثار الكثير من الجدل لدى الأوساط السياسية والشعبية في إقليم كردستان.

المادة 115 من الدستور تضيف بُعدًا آخر حين تُقر بأن “في حال وجود تنازع بين القوانين الاتحادية وقوانين الأقاليم، تُعطى الأولوية لقوانين الأقاليم في المسائل غير الحصرية،” وهو ما جرى تثبيته أيضًا في المادة 2/سادسًا من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل.

ورغم تأكيد الدستور على ضرورة سن قانون اتحادي لإدارة النفط والغاز في الحقول الحالية، فإن هذا القانون ظل معلقًا منذ عام 2007 بسبب الخلافات السياسية، رغم مساعي حكومة الإقليم المتكررة للدفع به عبر قنوات التفاوض. وهو ما أكدته وثائق المراسلات الرسمية التي سربتها جهات نيابية خلال جلسات البرلمان الأخيرة.

من الملاحظ أيضًا أن هذه الإشكالية لا تخص إقليم كردستان وحده، بل تمتد إلى جميع المحافظات المنتجة، بما فيها البصرة وذي قار وميسان. فالمادة 112 تمنح هذه المحافظات نفس الحقوق في إدارة مواردها، ما يعني أن أيّ حلّ ينبغي أن يكون شاملاً ومتوازنًا.

◄ وزارة النفط الاتحادية لم تنتظر حتى عودة الوفد الكردي من واشنطن لمناقشة أبعاد العقدين وفهم جدواهما الاقتصادية
ومع اقتراب موعد الانتخابات العراقية في نوفمبر 2025، ظهرت حملات مفاجئة ضد العقود الغازية المبرمة مؤخرًا بين حكومة إقليم كردستان وشركتي HKN Energy Ltd وWestern Zagros، في توقيت يثير الكثير من التساؤلات. فهذه الملفات التي كانت تُحل في السابق بالحوار والمؤسسات، أصبحت اليوم تُستغل عبر الإعلام أو تُزجّ في أروقة القضاء، ما يشير إلى استغلال واضح لهذا الملف في إطار الدعاية الانتخابية. وهنا تكمن الخطورة، لأن الزج بالقضايا الاقتصادية الإستراتيجية في الصراع السياسي لا يؤذي طرفًا بعينه، بل يُلحق ضررًا مباشرًا بمصلحة العراق ككل.

إن العقود التي وُقّعت مع الشركتين الأميركيتين لا تقتصر فوائدها على إقليم كردستان، بل تحمل بعدًا وطنيًا يمكن أن يسهم في تعزيز ثقة المستثمرين بالبيئة العراقية، ويدفع باتجاه تطوير البنية التحتية لقطاع الغاز، ما ينعكس بشكل مباشر على تحسين إنتاج الطاقة الكهربائية. وفي هذا السياق، أشار رئيس الوزراء محمد شياع السوداني خلال لقائه مع عدد من  شيوخ العشائر إلى أن العراق سيضطر قريبًا إلى استيراد الغاز من الخارج لتغطية احتياجاته في مجال الكهرباء، ما يضعنا أمام مفارقة واضحة: كيف يمكن أن نرفض مبادرات داخلية لتطوير الغاز بينما نتهيأ في الوقت ذاته للارتهان إلى الاستيراد؟

من هنا، تكتسب العقود التي أبرمها رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني أهمية استثنائية، لا لأنها فقط تمثل فرصة استثمارية كبيرة، بل لأنها تعبّر عن رؤية إستراتيجية قد تُغني العراق عن حلول آنية ومكلفة. وقد أكد بارزاني خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن أن هذه الاتفاقيات سترجع بالنفع على العراقيين جميعًا، لا على الإقليم فقط، وهو طرح يستحق أن يُناقش بعقلانية بعيدًا عن ضوضاء الحملات الانتخابية.
إن المصلحة العامة تقتضي أن نقرأ هذه العقود بوصفها أداة للتكامل لا وسيلة للانقسام، وفرصة لبناء الثقة لا مبررًا لتقويضها. ففي نهاية المطاف، لا يوجد رابح من النزاعات المستمرة سوى المزيد من التأخير في التنمية، والمزيد من فقدان الثقة بين المواطن والدولة.

قد يعجبك ايضا