مسعود بارزاني… حين اختار أن يكون پێشمەرگە قبل أن يكون قائدًا

د. ابراهيم احمد سمو

في لحظات التأمل، حين يتوقف الزمن قليلاً أمام سيرة رجلٍ لم يصنعه المنصب بل صنعه الجبل، لا يسعك إلا أن تتوقف طويلًا أمام حقيقة واضحة كالشمس: أن مسعود بارزاني لم يكن يومًا مجرد سياسي، ولا فقط نجل قائدٍ تاريخي، بل كان پێشمەرگە من الجبل إلى الجبل، ومن الخندق إلى الخندق، ومن معركة إلى أخرى، لا يميز نفسه عن غيره، بل يرى في تلك الصفة، “پێشمەرگە”، أعلى وسامٍ يعلّق على صدر الإنسان الكوردي الحر.

النشأة في بيئة الثورة… لا امتيازات لأبناء القادة
لسنا هنا بصدد الحديث عن جمهورية مهاباد، ولا عن تفاصيل النشأة في حضن الزعيم الخالد الملا مصطفى بارزاني، رغم أنها تشكّل خلفية عظيمة لكل شيء. ولسنا في وارد سرد صراعات الطفولة المنفية والشتات. بل نحن هنا لنقرأ محطة مفصلية، هي اختيار الشاب مسعود بارزاني حمل السلاح، في عام 1962، وهو في عمر السادسة عشرة، ليس بصفته ابن القائد، بل جنديًا بسيطًا في صفوف الپێشمەرگە.

قبِل الخالد و القائد الملا مصطفى شرط انضمامه، بشرطٍ واضح لا لبس فيه: أن يُعامل كأي مقاتل آخر، دون امتياز، دون ألقاب، ودون تمييز. وهكذا كان… بل كان في طليعة الطائعين، منفذًا الأوامر بكل دقة، يتقدم الصفوف ، بنى لنفسه مجدًا من صبرٍ وصمت، من شجاعةٍ وحكمة، ومن عقلٍ عسكري ميداني أثبت ذاته في كل موقف.

من المعركة إلى المعركة… والاسم يكبر
في سنوات ثورة أيلول (1961–1975)، عاش الپێشمەرگە مسعود بارزاني التجربة بكل ما فيها: النصر، النكسة، والعودة. لم يكن مشاهدًا، بل كان فاعلًا وشاهدًا. تارةً كان مقاتلًا متحمسًا يريد أن يكون مثل كل الپێشمەرگە، وتارةً يحمل عبء الاسم الكبير الذي يفرض عليه أن يعطي أكثر من غيره.

وبعد انتكاسة الثورة الكبرى بسبب اتفاقية الجزائر المشؤومة عام 1975، لم يتوقف، لم يهاجر بعيدًا، ولم يتراجع. بل دخل مباشرةً في مرحلة إعادة تشكيل الحركة الكوردية، من إيران وسوريا، ومن ثم داخل العراق نفسه. كان القائد ، والمقاتل في الميدان، والابن المخلص لنهج لم ينكسر رغم المؤامرة.

ثورة كولان… الدم الجديد في عروق الپێشمەرگە
مع انطلاق ثورة كولان عام 1976، كان مسعود بارزاني في قلب المعركة من جديد، ليس فقط بالبندقية، بل أيضًا بالتنظيم، والإقناع، وبناء الثقة بين الناس والمقاتلين. امتلك كاريزما الپێشمەرگە والقائد معًا. وفي هذه المرحلة بالذات، تكوّنت الملامح الجديدة للثورة الكوردية، كحركة تحمل مشروع دولة، لا فقط مشروع مقاومة.

لم يكتفِ بالجبال، بل كانت عيناه على المؤسسات. ومع نجاح الثورة في خلق واقع سياسي جديد بعد انتفاضة 1991، كان له دور مركزي في تأسيس البرلمان الكوردستاني، والمشاركة في كتابة دستور العراق من بعد السقوط في رسالة تقول، البندقية لا تناقض صندوق الاقتراع… بل تحميه.

پێشمەرگە حتى بعد الرئاسة
رغم توليه رئاسة إقليم كوردستان من 2005 إلى 2017، بقي مسعود بارزاني يعرّف نفسه دائمًا بكلمة واحدة: پێشمەرگە.
لم يتخلَّ عن الزي، ولا عن اللغة، ولا عن العقيدة. لم تحجبه المكاتب عن الجبهات، بل كان أول من يصل وآخر من يغادر. في أصعب أيام معارك التحرير ضد تنظيم داعش (2014–2017)، كان ينام مع الپێشمەرگە، يأكل مما يأكلون، يواجه الخطر كما يواجهونه.

وفي اي محفل كان يقول، (أنا پێشمەرگە، وسأبقى پێشمەرگە حتى آخر يوم في حياتي)

أكثر من حضور… كان جزءًا من النصر
في جبهات القتال ضد داعش، لم يكن حضوره رمزيًا ولا إعلاميًا. كان وجوده رافعة معنوية وقرارًا ميدانيًا، يرفع عزائم الپێشمەرگە، ويبعث الثقة في صفوف المدنيين. قاتل إلى جانبهم، وقاد عمليات، ورفض أن يكون متفرجًا على أقدار شعبه.
لقد تحوّل إلى رمز حيٍّ للبسالة والانتماء، ورأى فيه الشعب ما لا تراه في كثير من القادة: صدق الانتماء إلى صفوفهم، لا فوقهم.

في ذاكرة الشعب… الپێشمەرگە أولًا
ليست صورة مسعود بارزاني بالزي الكوردي مجرد لقطة فوتوغرافية، بل هي جزء من ذاكرة الشعب الكوردي. لا تُذكر معارك كوردستان دون أن يظهر فيها، لا تُستحضر الانتفاضات والانتصارات إلا ويكون اسمه جزءًا من العنوان.
بالنسبة للكثيرين، لم يكن الرئيس فقط، بل الپێشمەرگە الذي لم يبدل ولن يبدل. الرجل الذي حمل السلاح وهو صغير السن ، ورفض أن يضعه إلا حين يطمئن أن شعبه آمن.

دروس من سيرة الرئيس
ما يمكن أن يُستفاد من هذه السيرة ليس فقط الجانب البطولي، بل درس في القيادة المتواضعة، وفي أن يكون القائد پێشمەرگە قبل أن يُصبح صاحب قرار. لقد أثبت أن الشرعية الحقيقية لا تأتي من توقيع دستوري، بل من العرق والدم والمعايشة اليومية للناس.
وبينما جمع كثيرون بين المال والمنصب، جمع هو بين القضية والشرف، وبقي وفيًّا لكلمة واحدة تختصر كل شيء: “پێشمەرگە.”

قد يعجبك ايضا