ماهين شيخاني
تشهد منطقة الشرق الأوسط لحظة فارقة من التحولات السياسية الاستثنائية، قد تضع حدًا لعقود من العنف، وتفتح الباب أمام صيغ جديدة من التفاهمات والمصالحة. من دمشق إلى جبال قنديل، ثمة ما يُشبه إعادة رسم خطوط الاشتباك والنضال، وفق أدوات وأولويات مغايرة.
سوريا في قلب المعادلة الجديدة
رفع العقوبات المفروضة على سوريا لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل خطوة تُعيد الاعتبار لموقع سوريا الجيوسياسي في المنطقة، وتشير إلى تحول نوعي في نظرة المجتمعين الإقليمي والدولي إليها. فقد حوّلت سنوات الحرب البلاد إلى مركز استنزاف وصراع، لكنها اليوم تطرق باب العودة إلى النظام الإقليمي عبر تسويات تعيد للدولة السورية دورها في التوازنات المقبلة.
وقد لعبت المملكة العربية السعودية، من خلال مبادرة شجاعة قادها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، دورًا محوريًا في إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية. المبادرة لم تكن فقط سياسية، بل تعبيرًا عن مقاربة جديدة تعلي من شأن الاستقرار والانفتاح والحلول التفاوضية، بعيدًا عن منطق العزل والعقاب.
وفي هذا السياق، يأتي رفع العقوبات كفرصة حقيقية أمام الشعب السوري المنهك بالحرب، لتحريك عجلة الاقتصاد، وفتح بوابات الإعمار، واستقطاب الاستثمارات، وتهيئة الأرضية لعودة اللاجئين، لكن الأهم من ذلك: إعادة بناء الدولة السورية على أسس من المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية واللامركزية.
الكورد في لحظة التحوّل
وسط هذا المشهد، يبرز القرار التاريخي الذي اتخذه حزب العمال الكردستاني (PKK) في مؤتمره الثاني عشر، بإعلانه التخلي عن العمل المسلح، وحل الحزب بهيكليته القديمة، واعتماد النضال السلمي الديمقراطي. خطوةٌ تعتبر، في نظر المراقبين، من أهم التحولات في تاريخ الحركة الكوردية في تركيا والمنطقة.
إنها لحظة وعي عميق بطبيعة المرحلة ومتطلباتها، واعتراف ضمني بأن زمن البنادق قد آن له أن يُستبدل بلغة الحقوق والدساتير، داخل تركيا وخارجها. القرار يفتح آفاقًا جديدة للقضية الكوردية، ويمنحها بعدًا حضاريًا وسياسيًا ينسجم مع حركة الشعوب نحو التحرر السلمي، ويضع الدولة التركية أمام استحقاق الاعتراف بالشراكة الكوردية كمكوّن أصيل في الجمهورية.
لكن لا يمكن قراءة هذه الخطوة بمعزل عن تطور الفكر السياسي الكوردي خلال العقود الماضية، إلى تبنّي مفاهيم أوسع: الديمقراطية التشاركية، اللامركزية، حقوق المرأة، البيئية، وتعددية الهويات. هذا ما يجعل النموذج الكوردي – رغم كل عثراته – حالة خاصة ومُلهمة في محيط تحكمه النعرات والطغيان.
من شرق الفرات إلى جبال قنديل: الكورد بين المعاناة والمبادرة
الكورد في سوريا أيضا أمام اختبار جديد. بعد سنوات من الحصار، والتهميش، والتضييق، يجدون أنفسهم جزءًا من معادلة الانفتاح العربي والدولي. هم الذين قدموا التضحيات الكبرى في الحرب ضد الإرهاب، وأسسوا تجربة إدارية لا تخلو من الثغرات، لكنّها تنطوي على إمكانية التحول إلى نموذج للحكم المحلي والديمقراطية القاعدية.
رفع العقوبات عن سوريا، إذا ما ترافق مع مفاوضات حقيقية، يمكن أن يُمثّل فرصة سانحة للكورد للمطالبة بترسيخ حقوقهم في إطار سوريا موحّدة، لا مركزية، عادلة، يكونون فيها شركاء لا مجرد أقليات مهمّشة. وهنا تقع المسؤولية على عاتق القوى الكوردية نفسها، التي ينبغي أن تقدم رؤى واقعية، ومبادرات جريئة تتجاوز التشتت والتنازع الفصائلي.
نحو شرق أوسط جديد؟
هل نحن أمام شرق أوسط جديد؟ ليست الإجابة سهلة. لكن المؤشرات، من إعلان PKK، إلى انفتاح السعودية على سوريا، تشير إلى أن المرحلة المقبلة ستُبنى على عقلانية سياسية لا على منطق البنادق. في هذا السياق، يمكن للكورد أن يتحولوا من هامش الصراع إلى مركز الحل، إذا ما أحسنوا التقاط اللحظة التاريخية، وتقديم أنفسهم كقوة ديمقراطية، شريكة في بناء مستقبل المنطقة.
ختامًا، إننا نعيش لحظة نادرة يتقاطع فيها الألم والأمل، الدم والسلام، الماضي والمستقبل. والكورد – كما كانوا دومًا – في قلب هذه اللحظة. لكن الفارق اليوم أنهم أقرب من أي وقت مضى إلى أن يكونوا جزءًا من الحل، لا مجرد ضحايا دائمين للصراعات.
* ماهين شيخاني.