الدولة العميقة ومشروع PKK ،قراءة في الاستراتيجية التركية تجاه القضية الكوردية والمشروع الدولي للشرق الأوسط

 

شــــــريف علي

منذ انطلاقة حزب العمال الكوردستانيPKK في أواخر السبعينيات، دأبت الدولة التركية على تصويره كتهديد وجودي لكيانها، مبررة بذلك حملات القمع المتواصلة ضد الكورد في الداخل والخارج. غير أن القراءة المتأنية لمسار الحزب، وطبيعة تحوّلاته الفكرية والتنظيمية، تفتح الباب أمام تساؤلات تتجاوز الرواية الرسمية للدولة التركية، بل وتلامس صميم نظرية “الدولة العميقة” في تعاملها مع القضايا القومية.
ما يبدو اليوم هو أن PKK ، بكل ما مثّله من عنف وشعارات، لم يكن يومًا خارج السيطرة الكاملة للدولة العميقة في تركيا. بل على العكس، قد يكون قد وُلد ضمن استراتيجية موجهة لضرب الفكر القومي الكوردي متمثلا بنهج الكوردايتي والقيادة البارزانية في مهده، عبر خلق بديل مسلح، مؤدلج، قابل للاحتواء والتوجيه، يخدم مصالح الأمن القومي التركي أكثر مما يخدم تطلعات الكورد أنفسهم.
وفي الوقت الذي تلوح فيه ملامح مشروع دولي لتسوية القضية الكوردية في عموم المنطقة، بدأت تركيا تُعيد تموضعها: وتحاول إنهاء دور PKK كفاعل تاريخي، وتتهيأ للدخول إلى مشروع التسوية من بوابة “الدولة المتعاونة” لا المعطّلة. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هذا التحول نابع من رغبة في حل القضية الكوردية فعلاً؟ أم أنه مجرد التفاف سياسي للحفاظ على النفوذ وإعادة إنتاج أدوات السيطرة.

 

صعود PKK وتشكّله الإيديولوجي
نشأ حزب العمال الكوردستاني PKK في نهاية السبعينيات ضمن بيئة سياسية مشحونة بالتناقضات الأيديولوجية والصراعات الطبقية،فعلى الصعيد الدولي كانت الحرب الباردة بين القطبين العالميين في ذروتها ، وداخليا كانت تركيا آنذاك ساحة مفتوحة للتيارات اليسارية والقومية والدينية. لكن ما ميّز PKK منذ بدايته هو ليس عدم انتمائه الكامل لأي من هذه التيارات، بل محاربتها بشتى الوسائل بما فيها المسلحة،و تبنّيه خطابًا مركبًا، انتقائيًا، جمع بين الماركسية اللينينية من جهة، والنزعة الكوردية الثورية من جهة أخرى، دون أن يرسو على مفهوم واضح أو برنامج قومي صريح.
هذا التناقض البنيوي في الخطاب الأيديولوجي يثير سؤالاً مشروعًا: لماذا لم يظهر PKK كامتداد واضح للحركة القومية الكوردية الفاعلة على الساحة الكوردستانية ، التي رفعت شعارات تقرير المصير، والاعتراف القومي، والعمل السياسي المنظّم؟ ولماذا حمل منذ البداية بذور العنف والانفصال عن المحيط الكوردي بخطه القومي، سواء في تركيا أو في باقي اجزاء كوردستان ؟
التحليل الأقرب إلى الواقع هو أن الحزب لم ينشأ كامتداد طبيعي لتطور الوعي القومي الكوردي، بل كمشروع مُصاغ بعناية لملء الفراغ الذي كان يمكن أن تحتله حركات كوردية قومية نابذة للعنف شكلت حاضنة النضال القومي الكوردي في العصر الحديث، ولها امتدادات نضالية وفكرية وتاريخية – الحزب الديمقراطي الكوردستاني – أو أحزاب ومنظمات و تيارات المثقفين الكورد في تركيا. بمعنى آخر، جاء PKK ليقطع الطريق على إمكانية نضوج خطاب قومي كوردي مدني، معتدل، قابل للتفاوض والاعتراف، وليقدم بدلاً عنه نموذجًا ينتهج العنف الثوري و معزولًا، يسهل شيطنته ومحاصرته عسكريًا وسياسيًا.
ومن الملفت أن صعود الحزب لم يكن موضع قمع مباشر في بداياته، كما حصل مع حركات كوردية أخرى برزت في تركيا منذ اواخر عشرينيات القرن الماضي كانت تسعى للاعتراف بالهوية. بل تُرك المجال له نسبيًا لينمو، ويتمدد في الأوساط الكوردية الفقيرة والمهمشة، وخاصة في المناطق الريفية، حيث سهّلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تجنيد آلاف الشباب الغاضبين ضمن خطاب ثوري يبدو جذابًا في الظاهروالشعارات القومية المؤثرة، لكنه من حيث البنية يفتقر إلى برنامج قومي متماسك.
هنا، يبرز دور الدولة العميقة التي، وفق هذا التصور، قد تكون استخدمت الحزب منذ نشأته كأداة مزدوجة: من جهة، لضرب الحراك الكوردي القومي والسياسي الحقيقي، ومن جهة أخرى، لتبرير الحرب الأمنية والعسكرية الطويلة ضد الكورد، تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”.يضاف إليها البعد الثالث بلستخدامها لتهيئة المناخ المناسب للجنرالات في الانقضاض على دفة الحكم وكبح جماح الحريات التي باتت تهدد بنية النظام الاتاتوركي ,وهو ما حصل فعليا بإنقلاب 1980 الذي قاده رئيس الأركان التركي انذاك الجنرال كنعان إفرين.

الدولة العميقة ودورها في السياق التركي
مصطلح “الدولة العميقة” في تركيا ليس مجرّد تعبير نظري، بل هو توصيف لحالة واقعية متجذّرة في بنية النظام السياسي منذ تأسيس الجمهورية 1924. فهي شبكة من التحالفات الخفية بين عناصر من الجيش، والأمن، والقضاء، والاستخبارات، ومراكز المال والإعلام، تعمل بشكل موازٍ – وأحيانًا مضاد – لمؤسسات الدولة الرسمية. وظيفتها الأساسية هي حماية “روح الجمهورية”، كما صاغها كمال أتاتورك: قومية تركية صارمة، مركزية شديدة، وإنكار تام للهويات الأخرى، وعلى رأسها الهوية الكوردية.
في هذا الإطار، تصبح القومية الكوردية تهديدًا بنيويًا، لا مجرد قضية سياسية قابلة للحل. ولذلك، لم يكن من مصلحة الدولة العميقة أن تسمح بتطور حركة كوردية سلمية، تمتلك امتدادًا شعبيًا وثقافيًا، وتتحدث بلغة الحقوق والديمقراطية. مثل هذه الحركة لا يمكن قمعها بسهولة، ولا يمكن تصنيفها ضمن خانة “الإرهاب”، وبالتالي فإن انشاء تنظيم مسلح باسم كوردي مثل PKK ، يخدم غرضًا استراتيجيًا: صناعة “العدو المثالي”.
من خلال هذا العدو، تبرر الدولة كل شيء: عسكرة الحياة السياسية، قمع الصحافة، اعتقال النواب الكورد، إغلاق الأحزاب، والتدخل في دول الجوار بحجة “محاربة الإرهاب”. وكلما اشتد الضغط الدولي من أجل حل القضية الكوردية، كانت الدولة العميقة تعيد تنشيط العنف، إما عبر المواجهات المسلحة، أو عبر تصعيد إعلامي وسياسي يصوّر الكورد كخطر وجودي.
وليس من قبيل المصادفة أن كل مبادرة لحل القضية الكوردية كانت تُجهَض في لحظة حساسة: إما عبر تفجير، أو اغتيال، أو عملية عسكرية. على غرار مشروع الرئيس التركي الاسبق تورغوت أوزال الذي طرح في اوائل تسعينيات القرن الماضي ، ، كان يُنظر إليه كأحد المحاولات الجادة لحل القضية الكوردية في تركيا عبر وسائل سياسية واقتصادية بدلًا من الحلول العسكرية . أوزال كان يؤمن بأن الحل لا يكمن في القمع، بل في الاعتراف بالهوية الكوردية والحقوق الثقافية و تحسين الظروف الاقتصادية في المناطق الكوردية ودمجهم في النظام السياسي التركي بطريقة أكثر انفتاحًا. غير ان المؤسسة العسكرية التركية كانت تعارض أي تنازلات سياسية للكورد، سارعت الى كل ما جعل تنفيذ المشروع صعبًا وسارعت الى تصعيد الموقف العسكري بين الدولة التركية وPKK في التسعينيات وانهيار المشروع مع وفاة الرئيس أوزال عام1993 . وتكرر الموقف بين 2013 و2015 ، حيث بدا أن الدولة بدأت تميل إلى حل سلمي، لكن فجأة انهار كل شيء، وعادت الحرب المصطنعة بأبشع صورها، في وقت كانت فيه موازين القوى الإقليمية تتغير لصالح الكورد في سوريا والعراق. كل ذلك يدعم فرضية أن الدولة العميقة كانت – وما زالت – تدير القضية الكوردية تحت مظلة شعاراتية ليس بهدف الحل، بل بهدف التحكم بها و تصعيد الموقف عند الحاجة، واحتواءه عند الضرورة، وتوظيف الصراع داخليًا وخارجيًا بما يخدم استمرار النظام المركزي القومي التركي .

PKK كأداة ضغط لا كتهديد حقيقي
رغم كل ما رافق مسيرة حزب العمال الكوردستاني من خطابات ثورية ومواجهات مسلحة مع الدولة التركية، فإن سلوكه السياسي والميداني على مدى عقود يثير تساؤلات جدية حول طبيعته كـ”تهديد حقيقي” للدولة، أو كأداة تم توظيفها لضبط القضية الكوردية داخل قفص الصراع الدموي المراقب. فبدلاً من أن يمثل الحزب مشروعًا تحرريًا وطنيًا يهدف إلى بناء هوية كوردية مستقلة ذات جذور سياسية وثقافية، تحوّل إلى تنظيم مسلح معزول عن محيطه الشعبي، محكوم بتراتبية صارمة، وأيديولوجيا متغيرة بحسب الظرف، تُسقِطه أكثر مما ترفعه. ولم يكن قريبًا من الحركات القومية الكوردية ، بل تصادم معها في كثير من المحطات. ففي العراق، خاض مواجهات دموية ضد بيشمركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني ، وفي تركيا سعى إلى تصفية أو تهميش كل التيارات الكوردية التي رفعت مطالب سياسية سلمية ,وفي سوريا ارهبت الجماهير الكوردية واستطاعت عزلها عن حركتها السياسية السلمية وجر الطاقات الشبابية والنخب المثقفة الى ساحات حرب وهمية، هذا السلوك لا يمكن تفسيره فقط ضمن منطق التنافس السياسي، بل يبدو أقرب إلى استراتيجية إقصاء ممنهج لكل من قد يُشكّل بديلاً كورديًا معتدلًا، يمكن أن يحاور الدولة أو يفتح باب الحل السياسي. ومما يعزز هذا التصور، أن الدولة التركية كثيرًا ما استفادت من وجود هذا الحزب لتشويه الصورة العامة للقضية الكوردية. فكلما طُرحت مطالب لغوية أو ثقافية أو سياسية عادلة من قبل النخب الكوردية، كان يتم ربطها بـ “الإرهاب”، بحجة أنها امتداد PKK وهكذا جرى حصر القضية الكوردية في صورة “المشكلة الأمنية”، بدل أن تُطرح كقضية حقوقية تستحق الحوار والمعالجة. ،بل إن فترات تصاعد قوة PKK كانت تتزامن، في كثير من الأحيان، مع لحظات حساسة سياسيًا داخليًا أو خارجيًا، حيث كانت الدولة بحاجة إلى شدّ العصب القومي التركي، أو تأمين غطاء لحملات عسكرية خارج الحدود. فهل كان الحزب يُستخدم – بقصد أو من دونه – كأداة تأزيم تحت السيطرة؟
في هذا السياق، لا يبدو أن الدولة العميقة كانت تسعى فعلاً إلى “هزيمة” PKK ، بل إلى “إدارته”. فتنظيم قوي بما يكفي لتبرير القمع، لكنه ضعيف بما لا يسمح له بتحقيق أي إنجاز سياسي حقيقي، هو السيناريو المثالي لدولة تريد احتواء المسألة الكوردية لا حلها.

تحول الاستراتيجية التركية: من الصدام إلى الاحتواء
على مر السنين، شهدنا تحولًا ملحوظًا في الاستراتيجية التركية تجاه القضية الكوردية، لا سيما فيما يتعلق بحزب العمال الكوردستاني PKK كان التصعيد العسكري هو السمة الأبرز في العقدين الأخيرين، ولكن مع تغيرات الأوضاع الإقليمية، خاصة في الشرق الأوسط، بدأت أنقرة في تعديل هذا المسار. أصبح من الواضح أن التهديدات الخارجية، مثل التحولات في سوريا والعراق، بالإضافة إلى الضغوط الدولية، كانت تدفع تركيا إلى إعادة التفكير في استراتيجيتها الداخلية.
في بداية التسعينيات، كان PKK يشكل تهديدًا حقيقيًا للسيطرة التركية على المناطق الكوردية في جنوب شرق البلاد. لكن مع مرور الوقت، تراجع هذا التهديد بشكل تدريجي فكانت هناك عمليات استهداف وتصفية و لم يعد قادرًا على تحقيق أهدافه الكبرى: لا الاستقلال الكوردي، ولا الحكم الذاتي الكامل. بل بدا وكأن الدولة التركية قد نجحت في إضعاف الحزب إلى حد كبير من خلال حملات عسكرية ضخمة واستخدام آليات استئصال الفكر القومي الكوردي بشكل أوسع.
لكن التحول الجذري حدث في مرحلة ما بعد اختطاف زعيم الحزب عبدالله اوجلان من قبل الاستخبارات التركية ، حيث بدأت تركيا في تبني سياسات أقل شدة وأكثر انفتاحًا تجاه القضية الكوردية، رغم أنها لم تكن خالية من التحديات ، وبالتزامن مع تغيرات جذرية أجريت في البنية التنظيمية للحزب أُطلقت مبادرات سلام في محاولة للوصول إلى تسوية مع PKK، وكان أبرزها المفاوضات بين الحكومة وPKKهذا التحول ،”الاحتواء” بدلاً من “القمع الشامل” يعد انعكاسًا للوعي الاستراتيجي التركي بأن القضية الكوردية لا يمكن تجاوزها بالوسائل العسكرية وحدها. رغم أنه لم يُكلل بالنجاح الكامل، أظهر أن تركيا كانت تسعى إلى تلطيف مواقفها الداخلية، وبالتالي تجنب الانجرار نحو التصعيد المفتوح في وقت كانت فيه الأوضاع في سوريا والعراق تتدهور. أصبحت أنقرة أكثر قناعة بأن الحلول العسكرية لن تكون كافية لاحتواء القضية الكوردية، بل يمكن أن تؤدي إلى تعميق الفجوة.
في الوقت ذاته، هذه السياسات الجديدة لم تتجاوز الأبعاد الأمنية بشكل كامل. تركيا استمرت في اتخاذ إجراءات قمعية ضد أي حركة كوردية قد تحمل أجندة انفصالية، سواء كانت مسلحة أو سياسية. لذلك، يمكن القول إن تحول تركيا إلى سياسة “الاحتواء” لا يعني تحوّلًا جذريًا في موقفها من القضية الكوردية، بل هو تطور تكتيكي يتماشى مع المعطيات الإقليمية والدولية الجديدة.
مشروع الشرق الأوسط الجديد: تهديد أم فرصة لتركيا؟
إن التطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط على مدار العقدين الماضيين قد أفرزت معطيات جديدة تمامًا فرضت تحديات وفرصًا على تركيا في التعامل مع القضية الكوردية. فبينما كانت تركيا في الماضي تُمثل حجر الزاوية في مواجهة أي مشروع كوردي مستقل في المنطقة، فقد أوجدت التحولات الجيوسياسية واقعًا جديدًا، جعل من الصعب على أنقرة تجاهل المطالب الكوردية أو محاولة سحقها بالقوة.
ومع اندلاع الحرب في سوريا 2011، وانتقال الحزب بساحته الى المناطق الكوردستانية في شمال وشمال شرق سوريا بالتنسيق مع النظام السوري و اسس مجموعات كوردية مسلحة مثل “وحدات حماية الشعب” (YPG) في سوريا، وشكلت فيما بعد جزء من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي أصبحت تتمتع بدعم دولي، لا سيما من الولايات المتحدة. وهذا دعم أعطى الكورد في هذه المنطقة قدرة على فرض أنفسهم كقوة عسكرية وسياسية فاعلة على جزء كبيرمن الساحة السورية . من هنا بدأت تركيا في القلق من أن هذه التحولات قد تؤدي إلى تشكيل منطقة كوردية مستقلة على حدودها الجنوبية، مما يُعد تهديدًا وجوديًا بالنسبة لها.
لكن تركيا، وفي محاولة لموازنة الوضع، حاولت أن تتعامل مع المشروع الكوردي في هذه المنطقة من خلال انتهاج سياسات مزدوجة: من جهة، الضغط على القوى الدولية الكبرى (خاصة الولايات المتحدة) لوقف دعمها للكورد في سوريا والعراق، ومن جهة أخرى، العمل على تجنب التصعيد المباشر الذي قد يسبب توتراً إقليميًا غير قابل للتحمل.
وفي إطار هذا الواقع الجديد، نشأت فرص كبيرة لتركيا. فإذا كانت أنقرة قد حاولت في الماضي عزل القضية الكوردية داخل حدودها، فإن المستقبل يتيح لها إمكانية “إعادة تشكيل” هذا المشروع من خلال استراتيجيات إقليمية جديدة، عبر تحالفات مع قوى إقليمية ودولية. يمكن لتركيا أن تسعى إلى لعب دور محوري في حل القضايا الكوردية , وفق منظورها، ليس فقط داخل حدودها، بل على مستوى المنطقة، خاصة إذا كانت الدولة التركية مستعدة لتقديم تنازلات سياسية قد تشمل حلولاً شاملة لحقوق الكورد داخل تركيا نفسها.
ومع ذلك، تبقى هناك عقبة كبيرة أمام تركيا: كيفية إدارة هذا التحول دون الإضرار بمصالحها الاستراتيجية. فالموقف الدولي من القضية الكوردية ليس متسقًا، إذ تختلف الدول الكبرى في موقفها تجاه الكورد، مما يضع تركيا في موقف حرج بين الالتزام بمواقفها الأمنية ومواجهة الضغوط الدولية المستمرة.
في هذا السياق، فإن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد يحمل لتركيا تهديدات كبيرة في حال عدم القدرة على التكيف مع التغيرات، لكنه في الوقت ذاته يمثل فرصة استراتيجية إذا ما تم استغلاله بشكل صحيح. بدلاً من إغلاق الأبواب أمام القضية الكوردية، قد يكون من الأفضل لتركيا أن تسعى إلى تحريك هذه القضية في إطار مشاريع إقليمية من شأنها أن تضمن استقرار المنطقة بينما تحمي في الوقت نفسه مصالحها الوطنية.

هل تنجح تركيا في إعادة تعريف القضية الكوردية؟
في نهاية المطاف، تظل القضية الكوردية في تركيا واحدة من أعقد المسائل السياسية التي لا يمكن تجاهلها، مهما كانت التطورات الإقليمية أو التحولات الاستراتيجية التي قد تطرأ. ومع كل مرحلة من مراحل الصراع والتحول، تبرز أسئلة أساسية: هل ستنجح تركيا في إعادة تعريف القضية الكوردية وفقًا لاحتياجاتها الداخلية والإقليمية؟ وهل يمكنها في النهاية أن تجد مخرجًا يحفظ مصالحها الأمنية والسياسية دون أن تلغي حقوق الكورد في التعبير عن هويتهم ومطالبهم؟
الواقع أن التحولات التي تشهدها المنطقة اليوم قد تفتح أمام تركيا فرصة تاريخية لإعادة صياغة دورها في حل القضية الكوردية، على عكس مقاربتها التقليدية التي تمحورت حول القمع العسكري والتهميش السياسي. ولكن هذا التحول يحتاج إلى إرادة سياسية جادة، وهو ليس بالمهمة السهلة في ظل التوترات الداخلية والخارجية.ومع ذلك، لا تزال السياسة التركية حافلة بالتناقضات. فبينما تحاول أنقرة الانخراط في محادثات وتسويات مع الكورد، فإنها لا تزال تتبنى نهجًا أمنيًا في التعامل مع الحركات الكوردية التي قد تؤدي إلى إضعاف السلطة المركزية أو تهديد وحدة البلاد.
لكن في صميم التحولات السياسية الراهنة تبقى فكرة أن الدولة العميقة قد تكون لاعبًا رئيسيًا في توجيه قرار حزب العمال الكوردستاني بحل نفسه ليست بعيدة عن المنطق السياسي التركي، خاصة إذا نظرنا إلى سياق إعادة تموضع تركيا في المشهد الإقليمي والدولي، فعلى مدار العقود الماضية، تعاملت الدولة العميقة في تركيا مع حزب العمال كأداة لضبط المشهد الكوردي أكثر منه تهديدًا وجوديًا، فإبقاؤه تحت السيطرة أو تحجيمه كان دوماً جزءًا من استراتيجيات أوسع. وإذا كان قرار الحل يأتي متزامنًا مع تحركات تركية أستباقية لتعزيز دورها في مشروع دولي للشرق الأوسط،يحتل فيه الكورد موقعا محوريا وبرعاية ومساندة مباشرة من مراكز القرار الدولية ، فقد يكون بالفعل جزءًا من إعادة رسم صورة أردوغان كـ”زعيم قوي”، قادر على فرض معادلات جديدة داخليًا وخارجيًا.على ضوء التداعيات المحتملة التي تترتب على قرار حل الحزب لنفسه والتي قد تتجاوز الإطار الداخلي الكوردي وتمتد إلى المستويات الإقليمية والدولية، حيث سيؤثر على موازين القوى في المنطقة
إلا إنه يبقى السؤال: هل هذا القرار يعكس تحولات حقيقية في النظرة التركية تجاه القضية الكوردية، أم أنه مجرد مسرحية سياسية تُدار في كواليس الدولة العميقة؟ وأيضًا، كيف يمكن للكورد أنفسهم التعامل مع هذا السيناريو ضمن مشروع التسوية الجديد؟
إن فكرة “إعادة تعريف” القضية الكوردية تتطلب التوافق بين طرفين أساسيين: السلطة التركية، التي عليها التنازل عن بعض منطق السيطرة، وبين القوى الكوردية، التي يجب أن تُقدّم حلولًا سياسية تتماشى مع سيادة الدولة التركية ووحدتها. في هذا السياق، يمكن القول إن تركيا أمام خيارين حاسمين: إما الاستمرار في المواجهة الأمنية، مع ما قد تجرّه من عزلة سياسية وتدهور اقتصادي، أو الانخراط في حل تفاوضي طويل الأمد يستند إلى احترام الحقوق القومية للكورد في إطار دولة موحدة.
إذا استطاعت تركيا أن تخلق بيئة سياسية تستوعب تنوع هويتها، فإنها ستكون قد فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الاستقرار الداخلي والإقليمي، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة. ومع ذلك، فإن هذا الحل لا يمكن أن يتحقق إلا بتسوية حقيقية، لا مجرد اتفاقات تكتيكية وقتية.
في النهاية، القضية الكوردية في تركيا ليست مجرد مسألة أمنية أو عسكرية، بل هي قضية هوية، حقوق، ومساواة. وإذا ما أرادت تركيا أن تتجاوز هذا الصراع الطويل، يجب عليها أن تتجاوز هذه الرؤية الضيقة وتبدأ في فتح قنوات الحوار الجاد مع القوى الكوردية، لا أن تضعها في إطار العنف والقمع. وفي هذا الإطار، يبقى السؤال الأكبر: هل ستتمكن تركيا من الخروج من هذا المأزق التاريخي، أم ستظل تدور في دائرة لا نهاية لها من العنف والمواجهة؟
14 ايار 2025

قد يعجبك ايضا