د. ابراهيم احمد سمو
حين أبلغوه بقرار تعيينه في وظيفته الجديدة، شعر بشيء غريب يتسلل إلى قلبه. لم يكن فرحًا كما توقعوا، ولا مطمئنًا كما تمنّى. كان يعلم، في أعماقه، أن ما ينتظره لن يكون مجرد منصب أو لقب؛ بل تحول جذري في حياته، تغيير يقتلع جذوره القديمة التي كانت تمنحه حرية لا يضاهيها شيء.
كان بالأمس القريب يتجول كما يشاء؛ بسيطًا، خفيفًا على الأرض، يعرفه القليلون أو يتجاهله الكثيرون، لكنه كان سعيدًا بتلك المسافة التي تفصله عن الأعين الثقيلة والألسنة الحادة. كان يستطيع أن يسير على الرصيف بلا حراسة، ويجلس في المقاهي البسيطة، يشرب استكانة شاي مع الغرباء، يبتسم لصغار الحي، ويصافح الكبار دون مواعيد مسبقة أو حواجز مصطنعة.
أما الآن، وقد تغيرت ملامح حياته فجأة، وجد نفسه في المحكّ بدل الموقع، على الكرسي بدل الطريق. الموقع الذي بدا في البداية مغريًا بالهيبة والسلطة، اكتشف أنه مقيد بسلاسل لا تُرى، يجرّه نحو اللاعودة. أدرك ببصيرته أن الزمن الجميل قد انتهى، وأن العودة إلى الوراء أصبحت مستحيلة.
في لحظة صفاء، قبيل تسلّمه مهامه رسميًا، أخذ نفسًا عميقًا وكأنّه أراد أن يبتلع فيه كل ذكريات الماضي قبل أن تتبخر. قاد سيارته برفقة أحد أصدقائه القدامى، بصمت ثقيل كأن الكلام صار ترفًا لا يليق بهذه اللحظة الفاصلة. كان ينظر يمينًا وشمالًا، يشم عبير الأزقة، يتلمس جدران الذكريات، يعانق الشوارع التي حفظت خطواته وهو طفل، وهو شاب يافع، وهو رجل طموح يحلم بمستقبل مشرق.
كانت تلك الجولة أشبه بجنازة صامتة لذكريات لن تتكرر. أراد أن يودّع كل ما أنجزه بعفوية قلبه: العواطف، والمشاعر، والضحكات البريئة، ورفاق الطريق الذين شاركوه الأيام دون أن يطلبوا منه شيئًا. كان حرًا، فصار مقيدًا. كان صغيرًا ومتواضعًا، فصار اسمًا تتناقله الألسن كأنه ولي من أولياء السلطة.
علم، وقد جرّب التحول، أن لا شيء يُمنح مجانًا. من أراد أن يصل عليه أن يضحي بشيء، وأحيانًا يضحي بأغلى ما يملك دون أن يدري. الموقع أعطاه الجاه والمال، فتح له الأبواب المغلقة، جعل الناس تتقاطر نحوه تلهج باسمه طلبًا للبركة وقضاء الحاجات. لكنه، في المقابل، خسر حريته. خسر بساطته. خسر الحق في الجلوس كيفما شاء وأينما شاء. لم يعد بوسعه أن يرتشف الشاي على الرصيف أو أن يختلط بالبسطاء دون أن تحاصره العيون والهمسات.
عرف أن الإنسان في هذا العالم أمام خيارين قاسيين: إن بقي دون طموح نساه الجميع، وإن حقق طموحه وأصبح في موقع عالٍ، رفعه الناس في البداية بدعواتهم، ثم انقلبوا عليه بالدعاء لزواله. هذه هي الحقيقة العارية التي لا يذكرها أحد: النجاح يستهلكك كما تستهلك النار الحطب، ولا يترك لك سوى رمادًا من الذكريات المحترقة.
وها هو، بين الماضي والحاضر، يمسك قلبه بيده كي لا ينفجر من الألم. فقد خسر في رحلته الأولى حريته، تلك التي كانت أغلى من كل الماديات. وعندما حاول أن يعود إلى الوراء، اكتشف أنه خسر أيضًا أولئك الذين كانوا يومًا سندًا له. الكبرياء والكرامة منعتهم من أن يعودوا إلى حياتهم القديمة كما لو أن شيئًا لم يحدث.
ظل معلقًا بين زمنين: زمن الطفولة والشباب والحرية، وزمن المنصب والسلطة والمجاملات المسمومة. وبين هذا وذاك، كان الألم يعصر قلبه بلا رحمة.
ومع تقدم الأعوام، حين تجاوز منتصف العمر، بل في الربع الأخير من عمره بدأ يكتشف مرارة أخرى أشد وطأة: النسيان. فالناس الذين كانوا بالأمس يلهجون باسمه، تفرقوا عنه شيئًا فشيئًا. أصدقاؤه الذين كانوا يتغنون بنجاحه، انشغلوا بحياتهم الجديدة. بلاده التي أحبها وعمل من أجلها، صارت لا تعرفه إلا عندما تحتاج إلى توقيعه. حتى أهله وأقاربه، لم يعودوا يرونه إلا في المناسبات الرسمية.
تحول إلى غريب في وطنه، فردٌ ينتظر مصيره الموعود بصمت، كما ينتظر الجندي المجهول طلقته الأخيرة.
كان يتساءل في أعماقه: هل كان يستحق الأمر كل هذه الخسارة؟ هل تستحق المواقع أن تُخسَر؟ و أن يخسر الإنسان ذاته؟ أن يخسر روحه وحرية أن يكون بسيطًا؟
ربما، لو عاد به الزمن، لاختار أن يظل مجهولًا في طرقات مدينته، يجلس حيث يشاء، يشرب استكانة شاي مع من يشاء، يبتسم للناس بلا خوف، ويغني للريح والمطر دون أن يحسب حساب الرقباء.
لكنه اليوم، لا يمتلك إلا الذكريات. ذكريات حرية مهدورة، ورفاق طريق ضاعوا مع الأيام، وشوارع كانت يومًا تضجّ بحياته، صارت الآن غريبة مثل ملامحه التي خذلتها السنون.
ذلك هو الثمن الحقيقي الذي يدفعه الإنسان عندما يصعد درجات السلم: يخسر قلبه ليكسب مكانته، يخسر ذاته ليكسب لقبًا، يخسر حريته ليجلس على موقع قد لا يساوي يومًا واحدًا من أيامه البريئة المنسية.
وهكذا مضى به العمر، يحمل أوجاعه بصمت، ينظر في عيون الناس فلا يرى نفسه إلا ظلًا باهتًا لإنسان كان يومًا حراً، عاشقًا للحياة، قبل أن تسرقه المناصب، وقبل أن تبكيه المواقع