عبد الحميد الرشودي .. شخصيات في حياته

 

عقيل جمعة المولى

ينتمي الأستاذ عبد الحميد الرشودي الى جيل من الادباء الباحثين العراقيين، ظهرت أعمالهم في الخمسينيات وما تلاها، هم جسر بين جيل اعلام اليقظة الفكرية الذين برزوا في النصف الاول من القرن العشرين، والاجيال التالية. ويحاول هذا الجيل أن يشابه نفسه بما اتسم به جيل الرواد من موسوعية الثقافة، ولعل الرشودي يمثل هذا المنحى تمثيلا صادقا. ولا غرو فإن النصف الثاني من القرن المنصرم شهد انحسار تلك الموسوعية التي كانت سمة القمم الشامخة من اعلامنا الرواد.

ويمكن ان يعود السبب في هذا الانحسار الى تقهقر الحياة السياسية العامة وغياب مقومات ظهور الابداع ونضوجه، والامر ينطبق على كل المشهد الثقافي بأشكاله وفنونه، فهل نتخيل ظهور الزهاوي والرصافي والشبيبي والجواهري والوردي وسواهم من الاعلام في العهود التالية للخمسينيات؟!

ولا يستطيع الرشودي ان يسكت عن اوهام المؤلفين وعثرات المحققين، لكنه يكتب النقد استدراكا وتصحيحا وتنبيها بأسلوب بعيد عن الهجوم المباشر. ولم أره شديدا الا في نقده لكتاب أمين المميز الاخير (بغداد كما عرفتها)، والحق ان كتاب المميز في الفصول عن بغداد القديمة مليء بالأوهام والاختلاقات غير المبررة. ولا اعرف من اين جاءته هذه الوداعة، فالشخصيات التي تأثر بها وصحبها معروفة بقسوتها على مخالفيها، اما والده فلا اعرف شيئا عن سجاياه الخاصة ومقدار تأثر الاستاذ عبد الحميد بها.

هذه مقدمة اجدها مهمة لمعرفة الرشودي، غير ان المهم من هذا معرفة الاشخاص الذين تأثر بهم وتركوا في مسيرته الاثر الاكبر والاوضح، وهذا ما احاول استجلائه في السطور التالية.

واول هؤلاء الرجال واكثرهم تأثيرا، عبد الله الرشودي والد صاحبنا، وعلى الرغم من عمله البعيد عن الكتاب واهله، اذ كان يتعاطى بيع الحبوب في اسواق الكرخ (علاوي الشيخ صندل)، فقد كان أحد طلبة العلم مما كان يسمى بعلوم الجادة، ولاحق علماء بغداد الكبار في السنين الاولى من القرن المنصرم ينهل منهم أمثال الشيخ عبد الله السلام والشيخ عباس حلمي القصاب في جامع الشيخ صندل، كما حضر جانبا من درس الشيخ عبد الجليل الجميل في جامع الآصفية. وكان يمتلك مكتبة عامرة بأمهات الكتب العربية الشهيرة، كان أهل بيته يسمونها الكتبخانة.

فتح عبد الحميد الرشودي عينيه على هذه المكتبة، وكثيرا ما كان يكتشف يوما بعد يوم ان ما يتلقاه في المدرسة وقبلها الكتاتيب أقل من القليل عما كانت تحتويه تلك المكتبة.

ينتمي عبد الله الرشودي الى أسرة نجدية نزحت من بريدة في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، اذ جاء ابو عبد الله جد الراحل ويدعى محمد الى بغداد وسكن في الجانب الغربي منها (الكرخ)، أسوة بالأسر النجدية التي استقرت ببغداد، والرشودي لقب نسب الى نوع من انواع النخيل في بلاد نجد. وطد محمد علاقته بأهل منطقته التي تضم أقدم المحلات الكرخية القديمة، الست نفيسة والشيخ صندل وجامع عطا، وتزوج كريمة أسرة (جُميلية) وأنجب منها عبد الله، وولدا آخر ذهب قبل الحرب العالمية الاولى الى الهند وتوفي هناك. ولما بلغ عبد الله السادسة من عمره، توفي أبوه بعد ان بنى بيتا للأسرة في الكرخ.

المؤرخ العراقي الكبير عباس العزاوي، الشخصية الثانية التي تأثر بها عبد الحميد الرشودي في مسيرته الادبية والعلمية. تعرف عليه في المكتبة العصرية في شارع المتنبي لصاحبها محمود حلمي، وسرعان ما توطدت العلاقة بينهما، ومما سمعته من الرشودي ان المرحوم الاديب خضر الطائي كان صديقا لعلي غالب العزاوي المحامي شقيق الاستاذ عباس العزاوي. وكان يقوده بعد ان كف بصره، وعندما قتل اغتيالا العام 1944، انتقل خضر الطائي الى العمل مساعدا لعباس العزاوي. وفي العام 1960 ضجر الطائي من هذا العمل، فطلب من صديقه الرشودي ان يحل محله، فوافق. كان يذهب بعد انتهاء دوامه الرسمي الى مكتب العزاوي، وكان في خان الباججي في سوق الخفافين، ويذكر الرشودي انه كان يطلع على مايأتي الى العزاوي من كتب ومجلات كثيرة فينبه العزاوي على ما يهمه. غير ان العزاوي طلب من الرشودي ان يصحح كتبه قبل دفعها الى المطبعة، بل خوّله بتنقيح أي شيء يراه، وكان العزاوي يردد امامه: (ان عندي معلومات كثيرة ولا وقت لدي للتنقيح).

وكان الاستاذ مصطفى علي، الاديب والقاضي والوزير، أكثر الشخصيات تأثيرا في مسيرة الاستاذ الرشودي وأبعدها غورا، فالاثنان متفقان على حب الشاعر الرصافي، ومصطفى علي كان راوية الرصافي والمؤتمن على اثاره، وقد انتقل هذا الامر الى الرشودي، وكما فعل الرصافي مع مصطفى علي قبيل وفاته، بإعطائه اوراقه الشخصية وكتبه المخطوطة، كان الامر نفسه مع الرشودي، فقد قدم الاول اوراقه وكتبه المخطوطة ومنها بعض مخلفات الرصافي الى الاستاذ الرشودي. ولم يتردد الرشودي في نشر تلك المخلفات القيمة، وكان أمينا في كل ما نهد اليه.

تعرف الرشودي على مصطفى علي اولا من خلال الردود الخطيرة التي كتبها مصطفى على كتاب الدكتور بدوي طبانة عن الرصافي، وهو اول كتاب يصدر عن شاعر العراق العظيم، وقد كتب مقدمته الاستاذ محمد رضا الشبيبي، وقد تضمن الكتاب ومقدمته الكثير مما وجده مصطفى علي جديرا بالتصحيح والاستدراك والتنبيه. وربما تنبه مصطفى الى اسم الرشودي اولا من خلال الكتاب الاول للرشودي، وهو (ذكرى الرصافي) المطبوع ببغداد العام 1950. والغريب انهما لم يلتقيا إلا في العام 1968، وقد أدرك مصطفى علي بعد الاصدارات العديدة للرشودي (من آثار الرصافي آراء ابي العلاء المعري والادب الرفيع والمحفوظات الشعرية) وكتابه الكبير عن الزهاوي انه امام باحث مرموق جدير بأن يحمله امانة الحفاظ على تراث اعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث.

في الايام الاولى من انعقاد الصلة بين الاثنين، عرض مصطفى علي على الرشودي القسم الاول من شرحه لديوان الرصافي وطلب منه ان يجيل النظر فيه ويبدي ملاحظاته عليه. ويقول الرشودي انه مضى في المراجعة الى اخر قسم من هذا الشرح، وقد بدأت وزارة الاعلام العراقية بطبع الكتاب العام 1972 واستمر الى سنوات تالية، حتى ظهر كاملا في خمسة اجزاء. وقد قام الرشودي ايضا بتصحيح تجارب الطبع او الاستدراك عليها، ذلك لان الاستاذ مصطفى علي لم يعد يقوى على القراءة بعد ان ضعف بصره كثيرا. واستمرت الصلة بينهما الى وفاة مصطفى علي العام 1980. ووفاءً لتلك الصحبة الادبية الطيبة، أصدر الاستاذ الرشودي كتابا عن صديقه مصطفى علي العام 1989، تضمن سيرته العامة واثاره الكتابية.

هؤلاء هم الشخصيات الرئيسة في حياة الاستاذ عبد الحميد الرشودي الادبية. غير انه حدثني مرارا عن شخصيات لامعة اخرى، كانت له صلة وطيدة بها او بآثارها.

قد يعجبك ايضا