عدالة انتقالية لا إنتقامية

سردار علي سنجاري

انتهت حقبة خمسة عقود من حكم نظام حزب البعث في سوريا وحكم آل الاسد . ودخلت سوريا في مرحلة جديدة من مراحل تاريخها المعاصر بعدما سيطرت الفصائل المعارضة على زمام الحكم بهروب بشار الاسد إلى روسيا ومنحه اللجوء الانساني الذي له دلالات على ان دوره السياسي قد انتهى. لانريد الخوض في تفاصيل الماضي فالأيام القادمة سوف تكشف المزيد منّ التفآصيل التي كانت خافية عن الشعب السوري سواء على الصعيد الإنساني أو الاقتصادي وحتى فيما يخص المقاومة واسرائيل.
ولكن ما يهمنا هو أنّ نبحث بواقعية عن المستقبل الذي طالما انتظره الشعب السوري منذ عقود.

سوريا ذلك البلد الذي يمتلك شعبه القدرات الثقافية و المؤهلات العلمية ويتميز بالتنوع الاجتماعي والديني والثقافي وحضارة تعود إلى بداية الحضارات الانسانية وموقع جغرافي هام في الشرق الأوسط والعالم .
سوريا مزيج من ثقافات متعددة ما يجعلها واحدة من أهم الدول التي تمتلك مقومات التعايش والتسامح إذا ما تحققت فيها العدالة . وبما ان ما جرى في سوريا في الايام الأخيرة لم يكن في تصورات الشعب السوري ولا المراقبين الدوليين ولا حتى المعارضة نفسها التي استلمت زمام الحكم من تغيير مفاجئ في النظام السياسي السوري . الانتقال السياسي الذي بدأ سلسا ومن دون اي تدخل خارجي او هدر في الدماء وتدمير البنية التحتية لمؤسسات الدولة أعطى الشعب ارتياحاً وطمأنينة حيث لم تشهد العاصمة السورية دمشق إلا ما ندر من أعمال نهب تم السيطرة عليها بينما لم تشهد اي أعمال عنف او أعمال إنتقامية . بالطبع اي عملية تغيير في النظام السياسي العربي لابد ان يمر بمراحل عدة حتى يتم التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية تضمن حقوق كافة مكونات المجتمع . وهذه المرحلة التي تدعى بالمرحلة الانتقالية هي مرحلة اختبار نوايا النظام السياسي الجديد في مدى قدرته على تغيير الواقع السياسي والاقتصادي للشعب .
وفي حال سوريا فان التحديات التي تواجهها كثيرة ومعقدة وتحتاج الى مزيد من العمل الجاد والتعاون الدولي والإقليمي من أجل تحقيق الاستقرار في البلاد.

سوريا مثلها كمثل العراق في تنوعها الاجتماعي والعرقي والديني والطائفي ولكن الفارق بينهما ان العراق تم القضاء على النظام البعثي الصدامي بواسطة قوات أمريكية ودولية بينما الثورة السورية كانت سورية بمضموناتها وقيادتها ورجالها وهذا بحد ذاته عامل استقرار للبلاد في الحقبة القادمة فلا احتلال تقاومه ولا اجندة خارجية تعاديها كما حصل في العراق وتم استغلاله من قبل مما جاءوا على ظهر دبابات أمريكية وعززوا الطائفية والعنصرية وقادوا البلد إلى متاهات لا مخرج منها إلى بثورة ثقافية وعلميّة تكون المخرج الأمثل لبناء وطن سليم.

التحديات القادمة في سوريا تكمن في مدى قدرة النظام السياسي الجديد في اتباع سياسة التوازن والتوافق بين مكونات المجتمع السوري كافة وتحقيق العدالة والانتقال بالمجتمع السوري من حقبة خمس عقود من آلظلم والإضطهاد وتهميش الاخر إلى مرحلة البناء والتجديد والإعمار والعودة بسوريا إلى وضعها التأريخي والحضاري الطبيعي. والشعب السوري يملك من الوعي مما يؤهله إلى تحقيق أهدافه الأساسية في مواجهة التحديات التي قد تعترض مسار العملية التنموية في البلاد . ولطالما عاشت كافة مكونات المجتمع السوري منذ قرون بسلام ومحبة وامان واحترام وتقبل الاخر ولم تسجل عليهم اية مواجهات دموية إلا في العقد الاخير بسبب زج النظام السوري السابق طائفته العلوية الكريمة في أتون الحرب من أجل بقائه في سدة الحكم مما دفع المجتمع السوري إلى الاقتتال على أساس طائفي مقيت راح ضحيته خيرة الشباب من كافة مكونات المجتمع وحول مفهوم الثورة من مفهوم شعبي كامل إلى مفهوم طائفي ضيق .

اما ما يخص القضية الكوردية في سوريا فإنها قد تكون بمثابة عامل استقرار لسوريا إذا ما تفهمت الحكومة السورية الجديدة مطالب الكورد المحقة في تحقيق طموح الشعب الكوردي بالعدالة والمساواة والتعامل مع الكورد كجزء هام من المكونات السورية المتعددة او تكون مصدر قلق لسوريا والمنطقة إذا تم تهميش وإبعاد الكورد من تثبيت حقوقهم القومية في الدستور وعدم مشاركتهم في صياغته وتهميشهم في العملية السياسية وهذا لن يخدم الشعب السوري ومكوناته. وكذلك من الخطاء ان ينئوا الكورد بأنفسهم من العملية السياسية الجديدة ويبتعدوا عن المشاركة والمساهمة في العملية السياسية كما حدث مع سنة العراق بعد سقوط صدام حسين . ولكن يبدوا ان الأمور تسير بشكل صحيح في اتجاه تحقيق توافق بين القوى السياسية الكوردية والحكومة السورية الجديدة. وهذا الأمر ينطبق على الطائفة العلوية الكريمة ايضا فهي بدورها عليها أن تقوم بدورها في ازالة أعباء ومخلفات النظام السابق والمضي قدما في بناء سوريا الحديثة.
لقد عانى الشعب السوري الكثير من الازمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تسبب فيها النظام السابق خلال فترة حكمه وآن الأوان أن يتم وضع خطة واضحة ومتكاملة في المضي قدماً في تطوير البلاد وتحقيق الكرامة الإنسانية والاجتماعية للمواطن السوري الذي عاش تحت خط الفقر في السنوات الأخيرة. وهذا لن يتحقق إلى في تحقيق العدالة الانتقالية التي تعالج قضايا الخرق الخطير والتجاوزات التي تعرضت لها مباديء حقوق الانسان خلال فترة الحكم البعثي الاسدي والاوضاع الناتجة عن العنف واستعمال القوة في المجتمع السوري الذي نأمل في ان يتجه نحو صيانة حقوق الإنسان وتتحول إلى دولة ديمقراطية او السير بالاتجاه الصحيح نحو الديمقراطية.

إن العدالة الانتقالية تهدف بالأساس الى استعادة السلم المدني واعادة بناء مؤسسات الدولة فهي تحتاج الى عدالة متعددة الابعاد قضائية تحقق سيادة القانون وتصحيحية ترمم جراح الماضي وتوزيعية تتصف في اعادة توزيع الثروات .
اما إذا سلك النظام السوري الجديد سلوك النظام العراقي بعد سقوط نظام البعث الصدامي واستخدامه سياسة الانتقام وتهميش الآخر و نهب ثروات الشعب وزج الشعب في أتون الحرب الطائفية فان ذلك سوف يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليس فقط في سوريا انما في المنطقة ككل .
بالتأكيد هناك أياد ملطخة بدماء الشعب ويجب ان تاخذ جزائها العادل ضمن محكمة دستورية مستقلة بعيدا عن الانتقام أو الإملاءات السياسية الخارجية . وعندها تبدأ صفحة من التسامح والتعايش السلمي بين كافة مكونات المجتمع السوري وعودة بناء سوريا الحديثة العصرية التي تستحق وشعبها كل ماهو خير .

قد يعجبك ايضا