٢٦/ ٥/ ١٩٧٦
الجزء الثالث عشر
تأليف: أسعد عدو
ترجمة: بلند داوود
تقديم: د. عبد الفتاح علي البوتاني
تحرير صحفي: سالم بخشي
* حدثنا عن المرحلة التي تلت ذلك؟
– عندما تعاهدنا، قال الأخ جوهر: ((أذهب، وحاول أن تجد لنا مكاناً خلال عدة أيام، لأن بقاءنا صعب بعض الشيء))، عدت، وصرت أفكر بأنه ليس من السهل أن نجد مكاناً بعيداً عن انظار الناس، في بلد مثل تركيا العسكرية، ومنطقة بوتان ساخنة ومراقبة، وصعب البقاء فيها للغاية.
بعدها حاولنا تأمين الهويات المزورة، دفعنا رشاوي لأجل الحصول عليها، وعن طريق التهريب، والالتفاف من خلف نقاط التفتيش، والسير في الليالي الظلماء، وبالاختفاء في العجلات القلابة، والسير بين الحجارة والحصى، وتقمص شخصية رعاة الأغنام، وبالنهاية تمكننا من ايصال الرفيقين الى (كَوندكي ملي)، صحيح أن قريتنا صغيرة ومن الصعب نقل الأسرار منها، ولكن المضافة كانت في جهة من القرية تقع على الطريق العام المعبد، ولذلك لم يكن مناسباً لإقامتهما هناك بأي شكل من الأشكال، وكنا متأكدين بأن ضيوفهما ايضاً سوف يتوافدون، ويشرعون بالعمل، فقمت على عجل بتخصيص غرفتي الخاصة التي تقع في أسفل البناية، لجلوسهما ونومهما كيلا يراهما احد، وقبل أن يستيقظا من النوم جاء رفاق الحزب الديمقراطي الكوردستاني في تركيا، وقالوا بأنهم أحضروا بعض الأشياء تفضلوا باستلامها، ولهذا امتطيت ظهر حصاني الأسود الذي وضعت صورته على غلاف كتابي، وتوجهت برفقة أحد اقربائي اسمه (خالد أوصمان) إلى مكان قريب من الجزيرة بحوالي (7-8)كم، وهناك أستلمنا جهاز (الرونيو) وبندقية كلاشنكوف واحدة، وحملناها على ظهر الحصان الأسود، وجئنا بها إلى الأخ جوهر، وبوصول ذلك الجهاز شرع الأخ جوهر بالكتابة ونحن أيضاً كنا نقوم بطبعها، وكل واحد من الأهل والرفاق كان يقوم بإيصال بعض من المطبوعات إلى المكان اللازم، حتى يصل الخبر إلى الشمال والجنوب لكي يستعدوا للثورة.
توصلنا جميعاً إلى قناعة، بأن هذا المكان الذي كنا فيه لم يكن آمناً لعملنا، ولهذا في يوم كانت الثلوج تتساقط وكان هناك انخفاظاً كبيراً في درجة الحرارة، وضعنا حاجياتنا على ظهور الدواب ونقلناها إلى (سنىّ) وهو من أحياء (كَوندكي ملي) التي كانت تمتاز بمساحة واسعة وتقع بالقرب من النهر، وفي البداية حللنا ضيوفاً على بيت أحد أقاربنا وهو الشهيد (عمر حسن) وبمساعدة الأهل بنينا على النهر بيتاً من ثلاث غرف، غرفة منها للأخ جوهر والأخ كريم، وواحدة لي ولأولادي، والثالثة للطبخ وتناول الطعام، وأستطيع أن أقول بأن هذا البيت كان ديواناً للقيادة المؤقتة في (سنىّ)!
*كان التنظيم والاستعدادات تتقدم وتتطور تدريجياً لكن للأسف كنا نعاني من شحة الاسلحة للمقاتلين.
*وكنا نتجول باستمرار ونتنقل من كهف إلى كهف، ومن واد إلى واد، إلى حد أن النظام لم يستطيع الظفر بنا حتى عن طريق عملائه.
كان (محمد خالد بوصلّي) يأتي من سوريا و (حميد شريف وعبد الله صالح شقيق عبد الرحمن صالح) يأتوننا من قرية (بلكا) على الحدود ما بين جنوب كوردستان وشمالها، وكان (أبو عنتر) ايضا يتردد علينا. وكثيراً ماكنا نسمع أسماء الأبطال الآخرين، مثل (عمر لعلي، صادق عمر، أحمد رموّ، محوّ كوده، محمد ميرزا، حاجي قادر) وبهذه المشقة كنا ننجز مهامنا، والتواصل بين الرفاق القدامى على جانبي الحدود كان يزداد تدريجياً.
وكما أسلفنا، كان التنقل عبر الحدود بين سوريا- تركيا والحدود بين عراق- تركيا، يزداد من وإلى الجانبين، والحكومة التركية من جهتها حشدت قواتها العسكرية على الحدود حرصاً على نفسها، ولهذا بدأنا نفكر بتغيير أماكننا والتوجه نحو جنوب الحدود، وفي ليلة معتمة خرجنا من (سنىّ) متوجهين نحو الجبل، وأمضينا تلك الليلة هناك، قال كريم: ((من الأفضل أن نذهب إلى وادي (كوييا) ،لأنني متأكد باننا سوف نلتقى هناك ابو عنتر، فأرسلنا خلف السيارة احد معارفنا لأن هذه المنطقة الواقعة بين شيرناخ وكوييا وقشوريا ينتشر فيها الكثير من الجنود ونقاط التفتيش، فكنا نحاول ان نبتعد عن نقاط التفتيش ونلتف عليها سيراً على الاقدام، وبهذه الطريقة وصلنا الى مكان يسمى (جمان) حيث بيت احد اقربائنا واسمه الشيخ خالد حينها تركنا السائق هناك، وقلنا له: ((بإمكانك ان تذهب او انتظرنا ان اردت حتى نعود)) ومن ثم نحن الثلاثة ايضاً (الاخ جوهر، والاخ، كريم وانا) ذهبنا سيراً على الاقدام نحو قرية (نيريي كوييان)، وعندما وصلنا الى هناك الى بيت احد معارفنا اسمه (جميل) الذي لم يكن موجوداً حينذاك في البيت، قالت زوجته: ((ذهب جميل وابو عنتر في مهمة)) ممتنين لها لأنها احضرت لنا الطعام والا كنا هلكنا من الجوع! وبعد تناول الطعام عدنا الى (جمان) نحو سيارتنا التي كانت تنتظرنا وعدنا الى مكاننا الثاني (بيرمان) وعلى الطريق كانت هناك قرية تسمى (مليسى) وهي من قرى قشوريان وكان نجل مام يوسف بيرماني يمتلك دكاناً فيها ولكن الناس المتواجدين هناك كانوا يشكون بنا لأن ملابسنا كانت مغايرة لملابس اهل المنطقة، فذهبت لوحدي نحوهم وقلت لهم: ((انا من اهالي شيرناخ وهذان الشخصان من رفاق ابو عنتر، لا تظنا بهما السوء، اذهبوا الى ابو عنتر وأخبروه بالموضوع)) وبعدها قرر أحدهم واسمه حاجي حميد واجاب: ((تمام))! وفي تلك الليلة توجهنا معاً الى بيرمان، ومن ثم كتب الاخ جوهر رسالة له ولم يستغرق طويلاً حتى فرحنا بلقاء بعضنا عند مقبرة قرية بيرمان، ابو عنتر اصطحب معه مجموعة من اهل القرية واستقبلنا بحفاوة وتكريم ولهذا كان البعض منهم يحلف بأن أحدهم هو ابن البارزاني.
وصلنا قرية بيرمان التي كانت تقع على نهر الخابور على الحدود الفاصلة بين الجنوب والشمال فمكث الأخوة جوهر وكريم فيها لفترة ليست قصيرة الى ان تمت الاستعدادات الكاملة من اجل إطلاق الرصاصة الاولى لثورة كولان في قطاع بادينان.
* تمكنا من نقل الاسلحة المتنوعة التي حصلنا عليها بما فيها (دوشكة) مسافة ما يقرب (100) كم وخلال (8) ايام ،لإيصالها الى القيادة
مع وصولنا الى بيرمان شعرنا بنوع من الأمان، اي اننا نجونا من صخب منطقتنا وضجيجها التي كانت تشهد حركة كبيرة وكانت المراقبة العسكرية اشد عندنا والان باتت لقاءات الأخوة جوهر وكريم تسير بشكل افضل واسهل بسبب الطبيعة الجبلية الوعرة للمنطقة وصعوبة الوصول اليها، كما انها تقع على حدود الجانبين ولهذا قرروا ان اعود الى قطاعي الذي كان بمثابة حلقة الوصل بيننا، واصبح على شكل مثلث، الاخوة في الحزب الديمقراطي الكوردستاني في تركيا من جهة وقيادة قطاع بادينان من جهة وانا ايضاً كنت اتنقل بينهم بحسب الحاجة وكذلك ابو عنتر هو الآخر كان يقوم من بيرمان بمهام القيادة على طول الحدود بين قشوريان وكوييان وكان هناك آخرين يتم تكليفهم من قبل الرفيقين القياديين بالمهام الضرورية، كما كان لدي اشخاص للقيام ببعض الاعمال وتأمين الحاجيات الضرورية، وكان التنظيم والاستعدادات تتقدم وتتطور تدريجياً ولكن للأسف كنا نعاني من شحة الاسلحة للأشخاص التابعين لنا والمقاتلين القدامي الذين شاركوا في ثورة ايلول واختبأوا في القرى والكهوف القريبة من الحدود بعد الإنتكاسة، كانوا يحملون معهم اسلحتهم اي اولئك الابطال الذين ربطوا عملياً ثورتي ايلول وكولان معاً من دون ان ينعموا بأي رخاء!
لم يكن العمل سهلاً وكل زيارة من قطاعنا الى الأخ جوهر كانت تستغرق ما يقرب (10) ايام، ولكن الذي كان يساعدنا هو ان جميع اعضاء قطاعنا من مريدي اسرة البارزاني، ولهذا كانت الأمور تسير بيسر والعقبة الوحيدة امامنا هي انعدام او شحة الأسلحة، محبة الجماهير لنا وتأثير انهيار الثورة كان دافعاً لنا للبدء بالثورة في (26/5/1976) وتحدث كريم سنجاري بشان ذلك آنفاً وقال: ((في منطقة كولي في قرية نزور قامت احد مفارزنا بالهجوم على ربية عسكرية، وتمكنت من الاستيلاء على (19) بندقية سيمينوف وبعض الذخائر العسكرية الدقيقة وجلبوها معهم واستشهد في تلك العملية البطولية (محمد عيسى روبوزكي، وحميد ملا عبد الله بيزهي وجرح ابو حجو) لقد اثرت العملية على معنويات العدو وجن جنونه وقام بتحركات عسكرية في المنطقة، واستخدام المروحيات المدرعة، ولهذا اضطرت القيادة لاتخاذ قراراً بالتنقل وعدم انشاء مقرات ثابتة، اي أن نشاطاتنا كانت تخلق لنا صعوبات جمة، بالأخص في موضوعة التواصل معاًم الطائرات المدرعة، ولهذا اضطرت القيادة أن لايكون لها أي مكان ثابت ومعروف، وأن يكون مقرها متنقلجمةجم، وكنا نتجول باستمرار ونتنقل من كهف إلى كهف، ومن واد إلى واد، إلى حد أن النظام لم يستطيع الظفر بنا حتى عن طريق عملائه.
كي لا أنسى، في تلك الفترة الحساسة، كانت إحدى مفارزنا تقيم في منطقة سنديان، وكانت تضم كل من (حميد شريف وشقيقه، وعبد الرحمن صالح وعبد العزيز بلكي من أهال الشمال)،وفي احد الأيام انفجر لغم على احد مفارزنا، استشهد على اثره (عبد الرحمن صالح وعبد العزيز بلكي) وجرح (حميد، وشقيقه)، وعندما وصلنا خبر جرحهم، أرسلت شقيقي الأصغر عن طريق المعارف والأهل استطعنا أن نعالجهم في مدينة (ميردين)، كما اصيب البطل (أحمد جلكي) في ذراعه، جئت بدكتور من معارفي، وبعد معالجة الجرحى اعدناه إلى الحدود، وهكذا كنا نعمل المستحيل من اجل استمرار الثورة.
*شحة الأسلحة الثقيلة والجيدة كان سبباً لعدم انشائكم مقرات ثابتة. كيف سعيتم من اجل تامين السلاح؟
– بالنسبة لي استطعت مرتين الحصول على السلاح الجيد عن طريق المهربين المعروفين في قطاعنا، وقمت بإيصالها إلى الأخوة جوهر، وكريم من دون أي مشاكل. المرة الأولى أبلغونا بوجود (26) قطعة كلاشينكوف، و(10) قطع آربيجي، مع الرصاص والمتفجرات، في أطراف نصيبين، واستطعت بمساعدة (محمود كركري، وصلاح الشيخ) نلتقي مع مالكي الأسلحة وشرائها منهم، وبمساعدة الجميع استطعنا أن نوصلها إلى (كوّماته)على ثلاث مراحل، في البداية نقلناها عبر الصهاريج الصغيرة، وبداخل قلابات نقل الرمل، ومن ثم على ظهر الدواب.
هذه المرة كانت الأسلحة التي خبأناها تحت الأرض بين مديات ونصيبين، افضل وعددها اكثر والجدير بالذكر هو انه في ذاك الوقت كان كل حزب يحاول ان ينقل السلاح عبر الحدود الى الطرف الآخر ويبحث عن المهربين حتى يحصل على الاسلحة وهذ المرة ايضاً استطعنا ان ننقل تلك الاسلحة مسافة ما يقرب (100) كم وخلال (8) ايام ونوصلها الى القيادة حيث تم تسليم (الدوشكا) ليد العريف ايشو البطل والحارس الوفي الذي قاتل الهليكوبتر في معركة بيلمبيري تلك المعركة البطولية التي قدمنا خلالها (14) شهيداً ،للأسف وقعت جثث اربعة منهم بيد العدو وكان واحدهم هو الشهيد (زوران عزيز بشتيوان خانقيني) والذي كان يعرف بين البيشمركة باسم (انور- زوراب) كما اصيب (9) بيشمركة آخرون، والمؤلم هو انه في اليوم الثاني من المعركة استشهد ايضاً بيشمركة الثورتين (حجي قادر كرافي) وفي تلك الليلة قتل من العدو (45) جندياً وضابطاً واصيب (30) جندياً آخرون ومن الجدير ذكره هو انه فضلاً عن اولئك الشهداء والجرحى فان الذين سطروا تلك الملحمة هم (علي ابراهيم هروري الذي انضم فيما بعد الى قافلة الشهداء وبيشمركة ايلول وكولان، محمد خالد بوصلّي، الملازم محمد، محمد محو كوده الذي اسقط بالآربيجي طائرة هليكوبتر في ميدان المعركة.
السيد كوندكي، اعلم بانك دونت في كتابك، الكثير من اسرار البيشمركة الأبطال وذكريات عن نشاطات المفارز الأولى واعضاء القيادة المؤقتة، شكراً لجهودكم وننحني اجلالا لأرواح الشهداء وتضحياتهم، أنتم وعائلتكم مفخرة وانموذج للوفاء لنهج البارزاني الخالد، كما كان لك شرف اللقاء بفخامة الرئيس مسعود بارزاني في الشام في برهة حساسة وظروف صعبة في عام 1977.