التآخي – ناهي العامري
دفعني فضولي (كما في كل مصادفة) على القاء تحيتي أولاً، كي لا أشعره بالدونية، تقربت منه بأسلوب شفاف، لأخفف من حرجه، أثناء سؤالي عن جدوى مهنته، وهل تكفي لتغطية مصروفاته المعاشية، مع توقع في مثل حالته، ان يكن جوابه جاهز أو شبيه لمن صادفتهم قبله، اذ لا خيار لمن ضاقت به سبل العيش، ولا مناص من اللوذ بها، فهي على بخس اجورها جدا.. جدا، على الاقل تأتي بلقمة تسد الجوع، لكن ذلك الرجل حقا ادهشني، هبَ واقفا ودنا مني وهو في ملابسه الرثة، الملطخة بقذارة النفايات، من دون ان يبدو كسيرا ولا ذليلا، بل بكل زهو اقترب ليستقبلني مرحبا، كأني في ضيافته:
اهلا .. اهلا استاذ
شنو تجمع، سألته، رد علي بلغة فصيحة:
كما ترى ، كل ما يصلح لاعادة تدويره، علب المنيوم، فافون، كارتون.
قبل أن أهم لطرح ما بجعبتي من اسئلة استفتائية، عن طبيعة هذه المهنة، التي استقطبت الكثيرين هذه الايام، مردودها، اسباب اللجوء اليها، قطع علي الكلام بسؤال مفاجئ:
وانت ما عملك؟
صحفي وكاتب، اجبته
جميل ..، رد بابتسامة عريضة، ثم عقب مستفسراً عن حال الصحافة هذه الايام، مسترسلاً في ذكر أجناس كتابتها، واهميتها في نقل الخبر بحيادية تامة.
بقيت فاغرا فاهي مندهشا، لقدرته على مواصلة الخوض في غمار حديث ثقافي، لا يجيده الا متخصص موهوب، فجذبني صوته العذب بشكل أرغمني على الاصغاء لمحاضرته الثرة، وبعد ان ختم ما عنده، كان قد مرّ وقت طويل، جعلني أتناسى أسئلتي التي أعددتها له.
بعد ان توادعنا، وكل مضى لسبيله، ادركت ان ذلك النباش، استطاع وبقدرة حاذق محترف، ان يجرني لساحتي المهنية، ويتولى ادارة الحديث عنها، ليثبت انه ليس كل من اختار عمل نبش النفايات، غير كفوء أو بمرتبة دونية، بل الحياة بخلت عليه بفرصها، فاختار العيش على الكفاف بدل المساومة على اذلاله.
هذا الدرس في الاباء وعزة النفس، قادني لدرس آخر، هو أن ساحتنا الثقافية، مثلما تلفظ أحيانا أحد اتباعها، وتتركه نهباً لأنياب الفقر والعوز، تفتح ابوابها في المقابل لدخول الطارئين عليها، في معادلة غريبة، تعكس ثنائية ما يجري داخل اروقة السلطة من ظلم وفساد في آن واحد، حيث تذكرت في مصادفة أخرى، طرق سمعي حديث لرجل واقف على حافة الرصيف، المؤدي لسوق حينا الشعبي، حلق حوله ثلة من متذوقي الادب، منجذبين لحديثه عن نتاجاته القصصية التي قال عنها انها حديث الوسط الثقافي حاليا، وهو بحاجة الى سكرتيرتين لضبط ادارة عمله، داخل مكتبته في شارع المتنبي.
دققت النظر في ملامحة، فلم اتعرف عليه، فخطر في بالي ان اسأله عن عنوان اعماله القصصية المثيرة للجدل، ربا تسعفني ذاكرتي على تذكره، لكنه لم يعر اهتماما لسؤالي، مواصلاً حديثه الباذخ على الصاغرين له، عندها انصرفت من حلقته، ومضيت في طريقي حاملاً شكوكي في صدق ادعاءاته.
ومثلما توقعت، لم تمر سوى عدة شهور لافتضاح أمره، حيث شوهد وهو يقف في بوابة نفس السوق، يسأل المارة عن حسنة في سبيل الله، وبعد التقصي عن ماضيه الادبي، تبين انه كان يعمل أجيراً لدى احد اصحاب المكتبات، يقوم باعمال التنظيف والخدمة، وحين تم التخلي عن خدماته (بالتأكيد بسبب سوء تصرفه)، سقطت عنه ورقة التوت، ليضحى عاريا، لا يملك قوت يومه.
بعد انقضاء عقد من الزمن، شاءت الصدف أن ألمح النباش مرة ثانية، وهو يجمع علب الالمنيوم الفارغة، من تل للنفايات على جانب الطريق، القيت تحيتي بصوت يصل اسماعه، مع رفع ذراعي عاليا، انتبه لي في الحال، وبادلني باحسن منها، ثم تقدم نحوي فرحا بلقائي، وما ان اقترب أكثر توضح امامي آثار الاعوام التي حفرت اخاديد علو وجهه، وانقلاب لون شعره الى رمادي من أثر الشيب، فسألته ملاطفا: أما تزال في هذه المهنة؟
ولمَ لا اذا كانت وحدها من ينقذني من الفقر، رد علي على الفور، وبالكاد سمح لي طرح سؤالي الثاني عن مكان سكنه الحالي، ليتولى دفة الحديث وحده، وبسرعة البرق جرني لساحتي الاعلامية، بطريقة تشبه آلة استبدال مسار سكة الحديد، لحرف القطار الى اتجاه آخر، حيث بدأ بذكر دقيق لمكان منزله، في أحدى العشوائيات، ومضى في وصف معاناة قاطنيها باسلوب القصة الخبرية، متمنيا لو يملك كامرة سينمائية لتوثيق ما يجري هناك، معاتبا الاعلام على تقصيره في عدم الالتفات لتلك الشرائح التي أجبرها العوز على الملاذ تحت سقوف الصفيح الساخنة، وهكذا توادعنا مرة أخرى ليثبت انه وليد الثقافة، ومواكبٌ لها.
فيما استطاع دعي الادب، خلل تلك الاعوام، ان يتسلق بالكذب والدجل، واحة الثقافة، وينتحل وظيفة رئيس تحرير صحيفة ثقافية، لا يفقه كل ما ينشر فيها، معتمدا على شهرة اقلامها، فتمر دون فحص وفلترة.