التآخي ـ وكالات
في موسم الحج من كل عام، يفِد إلى السعودية جموع الحجاج من كل أنحاء العالم، حيث يلتقون في واحد من أكبر التجمعات البشرية السنوية.
وقد شهد موسم الحج هذا العام وفاة أكثر من ألف حاج؛ واستنادًا إلى أعداد وفّرتها نحو عشر دول عبر بيانات رسمية أو دبلوماسيين منخرطين في عمليات البحث عن الضحايا، بلغ عدد الوفيات في موسم الحجّ هذا العام 1.096، من دون تحديد الأسباب في معظم الأحيان، وفقا لوكالة فرانس برس.
وأعلنت المملكة السعودية برغم عدد الوفيات نجاح خططها الصحية لموسم الحج هذا العام. وقال وزير الصحة السعودي فهد الجلاجل إن موسم الحج مضى خاليا “من أي تفشيات أو تهديدات على الصحة العامة على الرغم من الأعداد الكبيرة للحجاج هذا العام، والتحديات المتعلقة بارتفاع درجات الحرارة”.
وأحصت السلطات السعودية نحو 1.83 مليون حاج هذا العام، بينهم 1.6 مليون وفدوا من خارج البلاد.
ويُعتقد أن الحر الشديد في السعودية، حيث سجلت درجات الحرارة 51.8 مئوية في الظل، هو أحد الأسباب الرئيسة وراء وقوع هذا العدد الكبير من الوفيات بين الحجاج هذا العام.
وحذرت وزارة الصحة السعودية الحجاج من مغبة التعرّض للشمس وللحر الشديد، ونصحتهم بتناول كميات كافية من المياه – لكن رغم ذلك، وقع كثير من الحجاج ضحايا للإنهاك الحراري وضربات الشمس.
وعزا دبلوماسي عربي وفاة معظم الـ 658 حاجاً مصريا هذا العام إلى الحر الشديد. وافتقر معظم هؤلاء إلى الخدمات المخصصة للحجيج النظاميين، ما حال دون حصولهم على الدعم المطلوب بحسب وصفه.
وفي حديث صحفي، قالت عائشة إدريس، وهي حاجة نيجيرية: “برحمة من الله، ولا شيء غير ذلك، لا أزل أحيا؛ لقد كان الحر شديدا على نحو غير معقول”.
وأضافت “لقد أوصدوا كل الأبواب المؤدية إلى الكعبة، فكان علينا أن نلجأ إلى السطح، حيث كان الحرّ شديدا للغاية”.
وتابعت “وقد حاولتُ اتقاء الشمس بمظلة، فيما كنتُ أروّي نفسي بمياه زمزم المقدسة. وأظنّ أنني كدت أتداعى إعياءً في لحظة ما، وأنّ أحد الحجاج قد أعانني وأهداني المظلة. والحقّ أنني لم أكن أتوقع هذه الدرجة الشديدة من الحرارة”.
وتحدّث ابن إحدى المتوفيات في موسم الحج هذا العام قائلا “انقطع التواصل فجأة مع أمي. وقد قضينا أياما في البحث عنها، قبل أن نعلم أنها قضت أثناء الحج”.
وكانت والدته قد ماتت من جرّاء ضربة شمس، تاركة أهلها يبحثون عن أيّ أثر لها. وأضاف الابن قائلا لبي بي سي “كانت تتمنى أن تُدفن في مكة”.
وفي ظل حرّ شديد غير معهود، وما تتطلبه شعائر الحج من نشاط جسدي شاقّ وسط مساحات شاسعة مفتوحة – واجه الحجاج مخاطر، لا سيما وأن بينهم كثيرون من كبار السن أو ممن يعانون أمراضا أو كليهما معا.
ولا يعدّ وقوع وفيات في الحج جرّاء الحرّ الشديد أمراً جديدا؛ وإنما يقع من قديم. وفي العام الماضي، أحصت السلطات السعودية أكثر من ألفَي حالة إجهاد حراريّ بين الحجيج.
ويحذر العلماء من أن الأحوال الجوية مرشحة للأسوأ بسبب الاحترار العالمي.
ونقلت وكالة رويترز للأنباء عن كارل فريدريش شلوسنر، رئيس قسم علوم المناخ في شركة تحليلات المناخ Climate Analytics، القول إن “موسم الحج سبق وجاء في أجواء حارة على مدى أكثر من ألف عام، لكن أزمة المناخ الراهنة تزيد من شدة الحرّ”.
وفي ظل الارتفاع في درجات الحرارة على كوكب الأرض فوق المستويات التي كانت سائدة قبل العصر الصناعي، يرى الباحث أن خطر الإصابة بضربة الشمس في أثناء أداء مناسك الحج يزيد بمعدّل خمس مرات.
وتشير التوقعات إلى أن كوكب الأرض سيسجل ارتفاعا مقداره 1.5 درجة مئوية في الحرارة بحلول عام 2030، ما يزيد التحديات في مواسم الحج المقبلة.
ويرى بعض الشهود، ان “الإدارة السيئة من جانب السلطات السعودية فاقمت الأوضاع، ما أدى إلى أزمات في كثير من المناطق المخصّصة للحجيج”.
وتحدث شهود عن إدارة بائسة لأماكن الإقامة والمرافق، قائلين إن الخيام شهدت تكدسات في ظل عدم وجود ما يكفي من أجهزة التبريد والمرافق الصحية.
وقالت أمينة وهي باكستانية تبلغ من العمر 38 عاما “لم تكن هناك أجهزة تكييف للهواء في خيامنا برغم الحرّ في مكة. المبردات التي كانت مثبتة لم يكن بها مياه معظم الوقت”. وأضافت أمينة “وقعت حالات اختناق كثيرة جدا في تلك الخيام، حينها كنا نتصبب عرقا في تجربة مريعة”.
وإلى ذلك، قالت فوزية، وهي حاجة من اندونيسيا “كثيرون سقطوا من الإعياء بسبب التكدس والحر الشديد داخل الخيام”.
وعزا كثيرون تلك المعاناة إلى تواجد حواجز تفتيش في الطرق، فضلاً عن ضعف إدارة عمليات نقل الحجيج.
وقالت حاجّة باكستانية، طلبتْ عدم ذِكر اسمها “وضعونا في مسار طوله سبعة كيلومترات بلا ماء ولا مظلات تقينا أشعة الشمس. وكانت الشرطة قد أقامت حواجز للتفتيش، لنجد أنفسنا مضطرين إلى السير على أقدامنا لمسافات طويلة بلا داع”.
وأضافت “في المخيمات، تُرك الحجيج كما لو كانوا دواجن أو حيوانات في مزرعة. لم يكن ثمة فراغ بين الأسرّة للتنقّل. ولم يكن هناك عدد كاف من دورات المياه”، بحسب قولها.
ويقول المطوّف محمد أشا، إن بعض الحجاج كانوا يضطرون إلى السير على الأقدام مسافة لا تقل عن 15 كيلومترا في اليوم، وقد تركهم ذلك فريسة للإجهاد الحراري، والإرهاق الجسدي، في ظل نقص المياه.
ويضيف المطوّف “هذه هي الحجة الـ 18 لي، ومن واقع خبرتي أستطيع القول إن السلطات السعودية لا تقدم تسهيلات، إنها تسيطر فقط، لكن لا تقدم المساعدة”.
ويتذكر محمد “في السنوات السابقة، كانت المنعطفات المؤدية إلى الخيام تظل مفتوحة، أمّا الآن فقد أصبحت كل هذه المسارات مغلقة. وعليه، أصبح على كل حاج -أيا كانت الفئة المصنّف تبعاً لها- أن يسير على قدميه مسافة 2.5 كليومتر تحت وطأة الحر الشديد حتى يبلغ الخيمة”.
ويتابع المطوّف “حتى لو كانت هناك خدمة طوارئ، فلن يستطيع أحد الوصول إليك قبل مرور 30 دقيقة. ولا تتواجد استعدادات للإسعاف، كما لا توجد نقاط للمياه على طول تلك المسارات”.
لكن البعض يسعى للحج من دون الحصول على تلك التأشيرة، برغم تحذيرات السلطات السعودية من عواقب ذلك؛ ولأنهم غير مسجلين رسميا، فإنهم يحرصون على عدم التعرّض للسلطات، خشية انكشاف أمرهم، ومن ثمّ يُحرَمون من الحصول على الدعم وقت الحاجة.
هذه المشكلة، حسبما يعتقد كثيرون، أسهمت في ازدياد أعداد الوفيات في موسم الحج هذا العام.
وتلقي السلطات السعودية باللائمة على هؤلاء “الحجيج غير النظاميين” فيما يتعلق بتكدّس الخيام المشار إليه آنفا.
وفي حديث قال سعد القرشي، المستشار باللجنة الوطنية للحج والعمرة، إن الحجاج غير النظاميين يسهل تمييزهم؛ اذ لا يكون بحوزتهم بطاقات النُسك التي تحمل بدورها “شفرة تعريفية” وهي لازمة لدخول الأماكن المقدسة وتُعطى للحُجاج النظاميين.
وقد يكون من بين أسباب وقوع وفيات بأعداد كبيرة كل عام بين الحجيج، هو أن كثيرين منهم قد تقدمت بهم السن – وربما أمضوا سنوات عديدة في ادخار نفقات الحج. ويتمنى كثير من المسلمين لو توافيهم المنيّة وهم يؤدون فريضة الحج ليُدفنوا في تلك البقاع.
وإذا قضى حاج في أثناء أداء الفريضة، تُبلغ بعثة الحج بذلك. ويتم التعرّف على هوية الحاج عبر بطاقة تعريفية توضع إمّا في سوار يلبسه حول معصمه، أو في رقبته. وبعد ذلك يتم الحصول على شهادة من طبيب، قبل أن تصدر السلطات شهادة بالوفاة.
وتقام صلوات الجنازة في مساجد كبيرة كالمسجد الحرام بمكة، أو المسجد النبوي في المدينة، على حسب مكان الوفاة. ويُغسل جثمان المتوفى ويُكفّن ويُنقل إلى ثلاجة للموتى توفّرها السلطات السعودية التي تتكفّل بكل النفقات.
وتتميز القبور بالبساطة؛ فهي بلا شواهد، وفي بعض الأحيان يُدفن أكثر من حاج في قبر واحد. وثمة كُتب تحوي أسماء المدفونين وأماكن قبورهم، بحيث يتسنى للعائلات الاستدلال على ذويهم وزيارتهم إذا هم أرادوا ذلك.
وبالتعاون مع الهلال الأحمر ومنظمات أخرى، تضمن الحكومة السعودية الحفاظ على كرامة الموتى.